في عام 2014، حين رسّخت روسيا سيطرتها على شبه جزيرة القرم ودعمت القوات الانفصالية في شرق أوكرانيا، تخبّط صانعو السياسة على طرفَي الأطلسي قبل تحديد أفضل رد على ما يحصل، وسارع المسؤولون في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اعتبار العقوبات عنصراً أساسياً من أي رد، لكن ساد جدل محتدم حول قوة تلك العقوبات، فمن جهة دعا المسؤولون، خصوصا الأميركيين منهم، إلى فرض أقسى عقوبات ممكنة، بما في ذلك وضع أبرز شركات المال والطاقة والدفاع الروسية على القائمة السوداء، وفرض قيود على المعاملات التي تشمل ديوناً روسية سيادية وخاصة.من جهة أخرى، اقترح البعض تطبيق القواعد التي تستعملها واشنطن في تعاملها مع إيران، مما يعني حذف البنوك الروسية من شبكة "سويفت"، منصة الاتصالات المركزية التي تستخدمها المؤسسات المالية لإرسال وتلقي المعلومات المرتبطة بالمعاملات والأدوات التجارية والمدفوعات، وأثار هذا الاقتراح قلق الكرملين بكل وضوح، فحذر ديمتري ميدفيديف الذي كان رئيس الوزراء الروسي حينها من اعتبار منع البنوك الروسية من الوصول إلى نظام "سويفت" مرادفاً لـ"عمل حربي".
في النهاية، لم تُنفَّذ أيٌّ من هذه التدابير، فقد طغت أكثر الأصوات اعتدالاً من مختلف المعسكرات السياسية في واشنطن وبروكسل، وعبّر صانعو السياسة عن مخاوفهم من عواقب جانبية كبرى في حال فرض هذه العقوبات على روسيا.اليوم، تواجه واشنطن وشركاؤها الأوروبيون وضعاً مشابهاً، حيث احتشدت آلاف القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا، وبدأ التحالف العابر للأطلسي يفكر مجدداً بأفضل العقوبات لمنع موسكو من غزو البلد، وعادت إلى الواجهة مجموعة من أكثر الاقتراحات عدائية من عام 2014، منها فكرة التهديد بحذف المؤسسات المالية الروسية من نظام "سويفت". ستكون هذه الخطوة كفيلة بتغيير الوضع كله، لكن تبقى كلفتها عالية ومنافعها غير مؤكدة، إذ ستتعرض روسيا لضربة موجعة حتماً، لكنها قد تتكيف سريعاً مع الظروف المستجدة ثم تردّ بطرقٍ مؤلمة، وبغض النظر عما سيحصل، ستتابع الصين مراقبة الوضع عن قرب، وإذا حاولت واشنطن تعطيل الاقتصاد الروسي وفشلت في مساعيها، فقد تسيء إلى أي جهود أميركية مستقبلية لمنع الصين من تنفيذ تحركاتها العدائية، وفي غضون ذلك، يسهل أن تستخلص الصين دروساً كثيرة من الردود الروسية المحتملة، مما يعني أن تستعد مسبقاً للرد إذا واجهت تهديداً مماثلاً في مرحلة معينة.من المنطقي أن يتوقع الجميع تضرر الاقتصاد الروسي بعد حذف البلد من منصة الاتصالات الأساسية في النظام المصرفي العالمي، فعملياً، قد يحتاج القطاع المالي الروسي إلى بعض الوقت للتكيّف مع هذا الوضع، لكنّ الأضرار المحتملة تبقى غير واضحة، ومنذ عام 2014، حين ظهرت هذه الفكرة للمرة الأولى في واشنطن، اتخذت روسيا خطوات جدّية لحماية نفسها، فقررت مثلاً بناء نسخة منافِسة لنظام "سويفت" اسمها "نظام تحويل الرسائل المالية"، وهي شبكة روسية محلية لا تخضع للعقوبات الأميركية، كذلك عمدت روسيا إلى زيادة احتياطياتها الأجنبية بدرجة غير مسبوقة، ففاقت قيمتها عتبة 620 مليون دولار، ويمكن استعمال هذا المخزون لتخفيف تداعيات أي ضربة اقتصادية.وحتى لو حُذِفت البنوك الروسية من نظام "سويفت"، ستضطر الشركات والمؤسسات المالية في الغرب (لا سيما في أوروبا التي تتكل على الغاز الروسي) لإيجاد طرق أخرى للتحايل على قيود "سويفت"، وفي الوقت نفسه، قد تقرر الشركات والجهات التي تشتري الغاز وتتكل في العادة على رسائل "سويفت" بين مؤسساتها المالية والأطراف الروسية العودة بكل بساطة إلى طرق الاتصال التي كانت تُستعمَل قبل عام 1973: يمكن حل طلبات المعاملات المالية عبر التلكس والمكالمات الهاتفية، ولو بوتيرة أبطأ وأقل أماناً.في غضون ذلك، قد تكون التكاليف الجانبية لقرار حذف روسيا من نظام "سويفت" مرتفعة جداً، وحتى لو لم تعتبر موسكو هذه الخطوة "عملاً حربياً"، من المستبعد أن يوافق الكرملين على هذا التدبير من دون إطلاق تدابير روسية مضادة، فعلى المدى القصير، قد تشمل هذه التدابير تجريم الامتثال للعقوبات الخارجية في روسيا، مما يعني أن يتعرّض الأفراد أو الشركات التي تطبّق القواعد الجديدة للملاحقة القضائية في المحاكم الروسية، فلا يزال هذا الاقتراح مُعلّقاً في مجلس الدوما منذ عام 2014، علماً أن الشركات الروسية أقنعت بوتين حتى الآن بخطورة هذه الخطوة وتأثيرها على هروب الاستثمارات الغربية جماعياً من روسيا.غداة حذف روسيا من نظام "سويفت"، قد تعجز الشركات الروسية عن إقناع السلطات بهذه الفكرة أو تغيير رأيها، وقد يصبح ذلك الاقتراح المُعلّق قانوناً بحد ذاته، كذلك، قد تسرّع موسكو ابتعادها التدريجي عن الهندسة المالية التي يسيطر عليها الغرب، فحتى الآن شملت هذه المقاربة تشجيع الأوليغارشيين على إعادة أصولهم إلى وطنهم وإتمام بعض الصفقات الكبرى في مجال الطاقة مع الصين بعملات مختلفة عن الدولار الأميركي، وإذا قررت روسيا الذهاب أبعد من ذلك عبر المطالبة بإدارة المدفوعات العابرة للحدود عن طريق نظامها الخاص لتحويل الرسائل المالية وأصرّت على إتمام المعاملات بعملات غير غربية، فستضعف أدوات الضغط المالي الغربية على المديين المتوسط والطويل.قد تكون هذه العواقب خطيرة وغير مسبوقة، فعندما قرر الأميركيون وحلفاؤهم حذف البنوك الإيرانية من نظام "سويفت"، لم ينشغلوا بهذا النوع من المخاوف، ولم تكن إيران تملك الوسائل البيروقراطية أو الثقل الاقتصادي لفرض عقوبات مضادة كبرى، لكنّ وضع روسيا مختلف، وقد أثبتت التدابير المضادة التي فرضتها حتى الآن (منع الواردات الزراعية من الغرب مثلاً، وكبح تدفق الغاز إلى أوروبا) أن الروس يملكون الأدوات اللازمة للرد على الضغوط الغربية على عكس إيران.بغض النظر عما تقرر واشنطن وشركاؤها الأوروبيون فعله إذا زادت العدائية الروسية، ستتابع بكين مراقبة الوضع، حتى أن الصين قد تكون أكثر توقاً من روسيا لتحصين نشاطاتها ضد أي شكل من الإكراه الاقتصادي الغربي، فالصين تملك أصلاً أدوات مضاعفة للرد على هذه الخطوات، وتشتق المقاربة الصينية الاستباقية، ولو جزئياً، من المحادثات المرتبطة بحذف روسيا من نظام "سويفت" في عام 2014، فقد أطلقت بكين في السنوات الأخيرة نظامها الخاص للاتصالات المالية: إنه "نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود"، وهو يهدف إلى تقليص نقاط الضعف الصينية في وجه الضغوط الاقتصادية الغربية.في الوقت نفسه، طرحت بكين سلسلة من العقوبات المضادة لمنع الأطراف الغربية من الامتثال للعقوبات الأميركية والأوروبية في الصين، وقد طوّرت أيضاً نظاماً قوياً لغرفة المقاصة المحلية بناءً على عملة اليوان الصينية، وتحصل هذه المعاملات كلها خارج نطاق التنظيمات الغربية، وتُمهّد هذه الأدوات لإطلاق خطوات أكثر عدائية حين تقرر بكين التحرك، وإذا أثبتت روسيا قدرتها على الصمود رغم حذفها من نظام "سويفت" ولم تواجه أضراراً اقتصادية طويلة الأمد، فلا مفر من أن يضعف نظام الردع الأميركي والأوروبي ضد موسكو وبكين.باختصار، لن يترافق حذف روسيا من نظام "سويفت" مع النتائج التي يتمناها عدد كبير من صانعي السياسة، لكن يمكن منع روسيا من غزو أوكرانيا عبر عقوبات وأدوات أخرى، وفي ما يخص العقوبات، تستطيع الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تزيد القيود المحدودة التي تفرضها راهناً على شركات المال والطاقة والدفاع في روسيا لدرجة أن تضع بعض المؤسسات على القائمة السوداء، حيث ستعطي هذه الخطوة أثراً أقوى من حذف البنوك الروسية من "سويفت"، فهي تمنع الجهات الأخرى من التحايل على النظام المالي الغربي.على صعيد آخر، تستطيع واشنطن ودول الناتو الالتزام بتسريع عملية تحديث الجيوش في الجناح الشرقي لحلف الناتو (كتلك التي تدافع عن بلغاريا، وبولندا، ورومانيا، ودول البلطيق)، وتكمن المفارقة في إصرار مجموعة من هذه الدول على استعمال المعدات العسكرية الآتية من الكيانات الروسية التي تخضع للعقوبات الغربية منذ عام 2014.قد تجازف كل واحدة من هذه الاستراتيجيات بإطلاق رد روسي قوي، لكن الغرب سيكون أمام خيار واحد أقل خطورة: يستطيع الأميركيون وحلفاؤهم أن يعبّروا علناً عن العقوبات والقيود التي يخططون لفرضها قبل تطبيقها على أرض الواقع، ثم يعلنوا بالطريقة نفسها الخطوات التي يُفترض أن تتخذها روسيا لتجنب هذه العواقب. لم يسبق أن استُعمِل هذا النوع من المواقف العلنية في أي برنامج عقوبات، لكنه قد يدفع موسكو هذه المرة إلى التفكير ملياً بما تنوي فعله، وقد تحصل الشركات الروسية على فرصة مهمة للتشاور مع بوتين، إذا قرر الأميركيون وحلفاؤهم فرض هذه العقوبات أو القيود فعلاً، فلا مفر من أن تردّ روسيا، لكن إذا أعلنوا التدابير المحتملة مسبقاً ومنحوا الكرملين مساراً بديلاً وواضحاً، فمن الأسهل عليهم أن يتجنبوا تصعيد الوضع واندلاع الحرب منذ البداية.* آدم سميث
دوليات
تداعيات حذف روسيا من نظام «سويفت» وعقوبات أخرى مقترحة
14-01-2022