بينما يستعد كبار المسؤولين الروس للمشاركة في محادثات حول الأمن الأوروبي مع نظرائهم الغربيين، تؤكد ثلاثة جوانب من الأزمة الأخيرة في أوكرانيا صعوبة المشكلة القائمة، لكنها تشير أيضاً إلى عامل آخر يحتاج إلى الحل للخروج من المأزق:أولاً، تؤكد هذه الأزمة حجم التحديات المطروحة حين يتمحور الاشتباك حول حقوق متنافِسة ولا يقتصر على مصالح متضاربة.
ثانياً، يتوقف أي حل محتمل على الحوافز الكامنة وراءه، لكن لا يمكن تحقيق أي تقدم بارز عند غياب هذه الحوافز وسيطرة العوامل المُحبِطة.ثالثاً، يُعتبر غياب الثقة بين الطرفَين العامل الأساسي الذي ينشئ عائقاً مسبقاً وبارزاً يحول دون إحراز أي تقدم، ولا بد من معالجته بشكلٍ منفصل. تعكس هذه العوامل مُجتمعةً طبيعة المخاطر التي يتعامل معها القادة.في الوقت الراهن، تُركّز روسيا والغرب على فرض حوافز سلبية وأحادية الجانب تعطي نتائج معاكسة، إذ تُهدد روسيا بغزو أوكرانيا إذا انضمّت إلى حلف الناتو (أو إذا انتشرت قوات الناتو في أوكرانيا)، ويُهدد الغرب في المقابل بفرض عقوبات غير مسبوقة إذا تعرّضت أوكرانيا للغزو.يتطلب الوضع حوافز إيجابية شرط أن تكون متبادلة المنافع، ويجب أن تنذر التدابير المرتقبة إذاً بتعزيز الأمن تزامناً مع تقليص المخاطر التي تطرحها الحوافز السلبية وأحادية الجانب التي يتمسك بها كل طرف اليوم، فمنطقياً، يُفترض أن يصبح الأمن القومي جزءاً راسخاً من الأمن المشترك، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر اتخاذ خطوات تضمن الابتعاد عن استعمال القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها لحل تضارب المصالح، وتشمل الخطوات الفاعلة ما يلي:• نزع الصفة العسكرية عن خط المواجهة الجديد الذي يمتد من القطب الشمالي إلى البحر الأسود من خلال الاستبدال باتفاق "القوات التقليدية في أوروبا" الشائب اتفاق آخر لتنظيم التسلّح وانتشار الوحدات العسكرية.• تقوية وثيقة فيينا للحد من حجم التدريبات العسكرية وعددها.• إعادة التأكيد على وعد الناتو بعدم التخطيط لنشر أسلحة نووية في أراضي أي عضو جديد ينتسب إليه.• الموافقة على عدم نشر صواريخ بالستية متوسطة المدى في أوروبا ومعالجة التهديدات التي تطرحها الأسلحة النووية شبه الاستراتيجية.لكن إذا كان تعزيز الأمن عبر المنافع المتبادلة الاتجاه المنطقي الوحيد، فما الذي يفسّر تطور الأحداث في اتجاه مختلف؟ يوصلنا الجواب إلى عامل مؤثر آخر في هذا المجال: انعدام الثقة.يجب أن يكون تجديد الثقة بين روسيا والولايات المتحدة مساراً ثنائياً، إنها مهمة ضرورية لأن العائق الذي أنتجه انعدام الثقة ظهر قبل أن تعطي مصادر التوتر الأخرى مفعولها، ويؤدي غياب الثقة إلى تراجع الرغبة في محاولة تغيير مسار العلاقات الأميركية الروسية الراهنة واختصار الخطوات التي تضمن إطلاق مسار أكثر فاعلية، وتزامناً مع تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائهما في الناتو، تَرَسّخ انعدام الثقة ثم دخل في حالة من الجمود. نتيجةً لذلك، أصبح هذا الوضع عاملاً منفصلاً عن تفاصيل المشاكل الأخرى التي زادت الخلافات بين الطرفين.بما أن انعدام الثقة ليس مجرّد مسألة منفصلة بل هو عائق بحد ذاته، فلن يكون الاعتراف بتأثيره كافياً، ولإحراز تقدّم حقيقي، يجب أن يتحول بناء الثقة إلى هدف أولي ومنفصل عن المساعي الأخرى، وقد تكون الخطوات المتّبعة صغيرة، لكن يُفترض أن تُطبَّق تزامناً مع الإعلان صراحةً عن هدفها المرتبط بتجديد مستوى معيّن من الثقة، وإذا أراد صانعو السياسة في موسكو وواشنطن وبروكسل التخلي عن الاستراتيجيات التي تستعمل الحوافز السلبية وأحادية الجانب وينفتحوا تدريجاً على استراتيجيات تدعم الحوافز الإيجابية المتبادلة، فيجب أن يتعلّموا مجدداً كيفية التفكير بطرقٍ بناءة وبسيطة ويتطلعوا دوماً إلى الهدف النهائي.
مقالات
على روسيا وأميركا ترسيخ الأمن القومي في الأمن المشترك
16-01-2022