تزامنت زيارتي لمتحف العثمان في الكويت مع تركيز الإعلام اللبناني على بوادر وصول العاصفة الثلجية "هبة" إلى الحوض الشرقي للبحر المتوسط، الأمر الذي ترافق مع حملات لافتة ومتناقضة من التحذير والتبشير! وفي خضم غوصي في عبق الماضي العريق على بساطته، ومع تنشقي عطر الأصالة المنبعث من أروقة المتحف التراثي ومقتنياته النفيسة، تعكّر صفو نفسي حين اجتاحت أفكاري هواجس المقارنة بين الماضي الذي كان لنا فيه بصمة وهوية، والحاضر الذي أفقدنا الغزو الإعلامي والثقافي فيه أي شعور بالوجود، وأقنعنا بفقدان الأمل باستعادة أي دور لنا في ركب الحضارة الإنسانية!
بقدر ما أسعدتني زيارة "متحف العثمان" بقدر ما آلمني التفكير خلال جولتي فيه بأنه لم يعد للـقلاف ولا للـنوخذة ولا للـخواص مطرح إلا في وجدان القلة منا، وبقدر ما أنعشت الزيارة حنيني للعراقة والبساطة التائهة بين غبار التاريخ، بقدر ما أحبطني الواقع بأن "دلة" الشمال أو الجنوب لم تعد قادرة على منافسة الدعاية القوية لـنجم القهوة الغربية، وبقدر ما هالني أن لذة أطباق "الموّش" و"المجبوس" لم تستطع الصمود أمام غزو الوجبات السريعة لأبدان أطفالنا المستسلمين للخمول والسمنة والأسرى لسحر الألعاب الإلكترونية. وفي المكان الآخر نجحت بدعة تسمية العواصف بأسماء بشرية محببة، كما نجحت مبالغة الإعلام بالتهليل لها في مواسم الجفاف والتهويل منها في مواسم الصقيع بأن تجعل منها حديث الناس، لتتحول "هبة" وأخواتها "زينة" و"يوهان" و"أليس" اللواتي سبقنها حضوراً إلى جبال لبنان في السنوات الماضية إلى موضوع الساعة وتتموضع في عين الترقب، بغض النظر عن واقع حضورها الذي عادة ما يخالف كل التوقعات! مرة أخرى يجبرني واقع الحال على استذكار إحدى المقولات الصادقة للعلامة "ابن خلدون"، ذلك العبقري الذي استطاع في مقدمته الشهيرة ورؤيته المستنيرة أن يسطّر أحوال الشعوب بتحليل عميق وتوصيف دقيق، فيؤكد- عن حق- أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب، فالنّفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وتنقاد إليه إمّا لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب، وعندما يستقر اعتقادها بذلك تنتحل جميع مذاهبه وتتشبّه بجميع أحواله، وذلك هو "الاقتداء". وها نحن في مجتمعاتنا من الخليج إلى المحيط نتخبط غافلين، وربما مدركين لكن مرغمين، في متاهات "الاقتداء" بحضارات وثقافات أخرى تحكمنا بالترغيب تارة والترهيب طوراً والتضليل الإعلامي دوماً، دون أن تتكبد عناء أي احتلال أو أن تعاني كلفة أي قتال، ونحن- إذ يتملّكنا شعور الغلب- نستسلم طوعاً وهواناً إلى واقع مرير تتخبط فيه مجتمعاتنا بصراع بين مقتنعين بأن "كل شي فرنجي برنجي" من جهة، و"أصوليين" يمتطون، من جهة أخرى، صهوة "صراع الأمم والحضارات" لرفض ومقاتلة كل من يخالفنا الثقافة والقناعة وحتى الرأي. لا يمكن لمن يكتب هذه الحروف على لوحة المفاتيح الإلكترونية أن يتنكر- في القرن الحادي والعشرين- لسنّة التطور الطبيعي في الحياة أو أن يلتفت عن حقيقة دورة الأمم، كما لا يمكن له أن يناهض حوار الحضارات، أو يناقض اتصال الثقافات، أو ألا يعترف بأن الدعوة للاستفادة من معارف الأمم الأخرى واجبة، والتشجيع على متابعة التجارب العلمية التزام، وأن الاستزادة من كل القيم الثقافية والحضارية والأخلاقية من مسؤولياتنا الدينية والإنسانية. الحد الوحيد الذي يقتضي أن يقف عنده التمازج الحضاري المنشود هو ألا تتحول عبارة "صباح الخير" أو تحية "السلام عليكم" إلى "Hi" بلكنة المياعة أو الى "Bonjour" بنزعة التقليد، فالفرق بين التفاعل والانصهار كالفرق بين ضوء القمر الذي ينير حلكة الليل وإشراقة الشمس التي تفقده وجوده وتصيّره نهاراً. في زمن العاصفة لم تفلح كل وسائل الرصد الحديثة في توقع المستوى الحقيقي لحدتها، فكان وقع "هبة" أقل مما تم الترويج له أو التحذير منه، كما لم تنجح كل النشرات الجوية من مجاراة القرويين البسطاء في ما كانوا يتمتعون به، فطرة وخبرة، من بساطة في التوكل والاستعداد وقدرة على التمييز بين عاصفة ثلجية آتية على ظهر رياح شمالية قارسة و"عْيَانَة" مرافقة لكتلة سحاب بطيئة الحركة ومثقلة بالمطر. وفي زمن فقدان الهوية الثقافية والحضارية ينبثق الأمل بوجود جهود مشكورة وواضحة لإحياء ما تبقى من تراثنا وإبقاء ما تيسر من صوره وحالاته في وجدان أجيالنا. لدينا الكثير مما يقتضي أن نعتز به ومما ينبغي أن نتمسك بثوابته، وينقصنا الأكثر للمنافسة- كمجتمعات لا أفراد- في ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، وهنا تتبلور بشكل حاد وواضح رسالة الإعلام ويتجلى دور المثقفين، وقد يكون مهماً ومفيداً في السياق، استذكار وتبني الدعوة التي أطلقتها مديرة حوار الحضارات في جامعة الدول العربية، السفيرة "سامية بيبرس"، في كلمتها الافتتاحية لمؤتمر "جامعة الدول العربية وتحالف الحضارات... رسالة الإعلاميين" المنعقد بتاريخ 3/ 7/ 2018، والتي حثت فيها وسائل الإعلام على "تجسير الهوة بين الحضارات المختلفة" وتبنّي خطاب إعلامي يشجع على الحوار والتفاهم وقبول الآخر، مضيفة أن سعي المروّجين لصراع الحضارات مثل "صامويل هنتنغتون"، يتجه لجعل العروبة والإسلام العدو الجديد للحضارة الغربية، مما يقتضي على الإعلام تأدية الدور الفاعل والمحوري بتنشيط العزائم وتحفيز الهمم، وبالمبادرة لإفشال مثل تلك الحملات وإعادة تقديم الحضارة العربية بصورة مشرقة تستحقها، وتسليط الضوء على دورها في إثراء الحضارات ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
«هبة» و«متحف العثمان» ودور الإعلام الحضاري
26-01-2022