أدى الانسحاب الأميركي من أفغانستان في الصيف الماضي إلى زيادة الاضطرابات في الدول المجاورة التي اعتادت على تحميل الولايات المتحدة أثقل أعباء المنطقة، فبعد استقرار حركة "طالبان" في كابول، من المتوقع أن تتوسع الشبكات المسلحة، وقد تمتد مظاهر انعدام الأمان إلى ما وراء الحدود الأفغانية، فلا يزال هذا الاحتمال مصدر قلق في دول كثيرة، لكن إيران وباكستان تبقيان، أكبر جارتَين لأفغانستان، الدولتَين اللتين تملكان أكبر نفوذ في البلد، مما يعني أنهما تواجهان أخطر المجازفات أيضاً.تمكّنت إيران وباكستان من أداء دور مؤثر في الشؤون الأفغانية الداخلية بفضل حدودهما الطويلة مع أفغانستان، ولا ننسى أهمية الروابط العرقية واللغوية والثقافية التاريخية بين هذه الدول، وفي المقابل، لا تملك البلدان المجاورة الثلاثة في آسيا الوسطى أو الصين التي تَحِدّ أفغانستان غير الساحلية المستوى نفسه من النفوذ في البلد، حيث تتكل الصين على إيران وباكستان معاً لإدارة أفغانستان التي تسيطر عليها "طالبان"، وتتكل دول الخليج العربي على باكستان لحماية مصالحها هناك، وغداة الانسحاب الأميركي، ستصبح إيران وباكستان إذاً من أبرز الجهات المتنافسة لرسم مستقبل أفغانستان في عهد "طالبان".
أدى انتهاء حقبة طويلة من التدخلات المباشرة للقوى العظمى في أفغانستان إلى ترك فراغ خطير، حيث تحاول إيران وباكستان، رغم اختلافاتهما الكثيرة، إرساء الأمن والاستقرار في بلدٍ غارق في الحرب منذ جيلَين، وفي حالات كثيرة، تضاربت مصالحهما أو تصادمت بشكلٍ مباشر في أفغانستان، لكن بات البلدان الآن مضطرَين للتعاون بطرق غير مسبوقة.تغيّرت إيران بكل وضوح منذ عام 2001، فقد قدّمت حينها دعماً استخبارياً للولايات المتحدة وساعدت شركاءها في التحالف الشمالي لإسقاط "طالبان" من السلطة، ثم تدهورت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة سريعاً في ظل الخلافات المتزايدة بسبب برنامج طهران النووي وتورط واشنطن في العراق. بدأ الإيرانيون يطوّرون روابطهم مع "طالبان" بدءاً من عام 2005، وبحلول عام 2009، عمد "فيلق القدس" (فرع العمليات الخارجية التابع للقوة العسكرية النخبوية في إيران) إلى تزويد المتمردين في "طالبان" بالأسلحة.تعاونت طهران مع شخصيات من "طالبان"، منهم قادة عسكريون سابقون من أمثال المُلا عبدالقيوم ذاكر، والمُلا إبراهيم الصدر، وزعيم "طالبان" المُلا أختر محمد منصور الذي قُتل خلال ضربة أميركية في عام 2016 بعدما عبرت مركبته من إيران إلى باكستان، وفي الوقت نفسه، حافظت إيران على علاقاتها مع الأقليات تزامناً مع تأييد النظام المدعوم من الولايات المتحدة في كابول، فقدّمت أكياساً من الأموال النقدية التي تفوق قيمتها عتبة المليون دولار سنوياً.حاولت باكستان من جهتها بناء علاقات مع قوى أخرى في أفغانستان، فتواصلت في البداية مع حكومة كابول وفصائل معادية لحركة "طالبان" منذ 15 سنة تقريباً، لكن لم تلقَ هذه المبادرات ترحيباً واسعاً في جميع الحالات، إذ لم يكن خصوم "طالبان" القدامى يثقون بإسلام أباد، وفي غضون ذلك، أدت محاولة باكستان التعاون مع الجهود الحربية الأميركية إلى خسارة تأثيرها الحصري على "طالبان"، بحلول منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لم تكتفِ "طالبان" بتطوير علاقات مع إيران، بل بدأت مفاوضات مع واشنطن أيضاً، وفتحت مكتباً سياسياً لها في قطر، وسعت إلى إقامة علاقات مع قوى مختلفة مثل الصين وروسيا وتركيا والدول الأوروبية وجهات أخرى، لكن كانت إسلام أباد في تلك الفترة لا تزال تستفيد من روابطها الواسعة مع حركة التمرد الأفغانية، لا سيما شبكة "حقاني" المتمركزة في شرق أفغانستان و"مجلس شورى كويتا" الذي يمثّل معقل "طالبان" الأصلي في جنوب البلاد.في حقبة تمرّد "طالبان"، كانت إيران وباكستان مسرورتَين من حفاظهما على قنوات التواصل والدعم مع الحكومة في كابول والمسلحين في آن، لكن بعد وصول "طالبان" إلى السلطة وسحق معظم قوات المعارضة، تواجه طهران وإسلام أباد وضعاً لم تكونا مستعدتَين له على الأرجح، فكيف يمكن أن يتأكد البلدان من أن الجماعة التي ساعداها لإطلاق حركة تمرّد ستحكم أفغانستان الآن بطريقة لا تؤجج انعدام الأمان أو تُهدد مصالحهما الوطنية؟تدرك إيران وباكستان أنهما مضطرتان للتعاون لإدارة الوضع الأمني في أفغانستان، ويشير تشكيل الحكومة المؤقتة التي ترأسها "طالبان" إلى وجود درجة من التنسيق بين البلدين، فقد سيطر قادة متشددون مقرّبون من باكستان على أول حكومة كشفت عنها "طالبان"، ثم جرى تعيين شخصيات منتمية إلى الأقليات ومقرّبة من إيران في وزارات محورية بعد بضعة أيام نتيجة محادثات جمعت بين مسؤولين إيرانيين وباكستانيين على هامش اجتماع "منظمة شنغهاي للتعاون" في "دوشانبي"، في سبتمبر 2021.نتيجةً لذلك، تولى عبدالقيوم ذاكر وإبراهيم الصدر وزارتَي الدفاع والداخلية على التوالي، وأصبح الحاج نور الدين عزيزي، وهو طاجيكي من مقاطعة "بنجشير"، وزير التجارة، كذلك، تشمل وزارة التجارة الحاج محمد بشير، وهو تاجر أوزبكي من ولاية "بغلان"، فقد أصبح هذا الأخير نائب الوزير، وبات الحاج محمد عظيم سلطان زاده (تاجر أوزبكي آخر من مدينة "سار إي بول") نائب الوزير الثاني، وتجدر الإشارة إلى أن التجارة بين أفغانستان وإيران تبقى أكبر من تلك التي تجمع أفغانستان وباكستان، كذلك أصبح محمد حسن غياسي، وهو طبيب شيعي من جماعة "الهزارة"، نائب وزير الصحة، ومن خلال هذه التعيينات الرمزية، تأمل "طالبان" تحقيق هدفَين:أولاً، تحاول حكومة "طالبان" داخلياً إقناع الأقليات بأنها تنوي تمثيلها في السلطة المؤقتة وأي حكومة مستقبلية.ثانياً، تسعى الحركة الإسلامية الحاكمة إلى إقناع المجتمع الدولي بأنها تتجاوب مع الدعوات إلى إنشاء حكومة شاملة.قد تكون هذه التعيينات الوزارية الخاضعة للتفاوض مهمة، لكنها ليست الوسيلة الوحيدة التي تسمح للإيرانيين والباكستانيين بالتعاون في ما بينهم لإدارة الوضع الهش في أفغانستان، فقد ترأس أهم قائد عسكري إيراني، اللواء محمد حسين باقري (أشرف على الحرس الثوري الإيراني والقوات العسكرية النظامية في طهران بصفته رئيس أركان القوات المسلحة المشتركة)، وفداً إلى إسلام أباد في منتصف أكتوبر، وناقش باقري وجنرالات إيرانيون آخرون مطولاً كيفية التعاون مع نظام "طالبان" لمعالجة المخاوف الأمنية المشتركة بين البلدين خلال اجتماعات لهم مع نظرائهم الباكستانيين.لكن رغم محاولات التعاون كلها، يبقى الحذر سيّد الموقف بين إيران وباكستان، حيث تشعر طهران بالقلق من روابط إسلام أباد الوثيقة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي تخشى أن يستفيد السعوديون والإماراتيون من هذه العلاقات، وقد تحاول دول الخليج من جهتها التصدي للتحركات الإيرانية في العالم العربي عبر تأجيج الاضطرابات التي تواجهها إيران في أفغانستان وباكستان.أما باكستان، فهي تشعر بقلق شديد من التقارب المتزايد بين منافستِها اللدودة، الهند، وإيران، لطالما كانت المصالح الإيرانية والهندية في أفغانستان متداخلة، لا سيما الرغبة المشتركة في منع الإسلاميين السُّنة المعادين لطهران ونيودلهي من التحرك بكل حرية في البلد. تعاونت إيران والهند في ما بينهما، إلى جانب روسيا، خلال التسعينيات لدعم التحالف الشمالي المعادي لحركة "طالبان"، ولم تحضر الصين وباكستان المؤتمر الإقليمي الذي نظّمه مستشار الأمن القومي الهندي، أجيت دوفال، حول أفغانستان في شهر نوفمبر، لكن حضره اللواء البحري الإيراني علي شمخاني، إلى جانب نظرائه من دول آسيا الوسطى وروسيا، لكن الانسحاب الأميركي من أفغانستان ثم انهيار الدولة الأفغانية المدعومة من المجتمع الدولي أديا إلى ظهور مشكلة استراتيجية كبرى بالنسبة إلى الهند، وبعد سيطرة "طالبان" على كابول في الفترة الأخيرة، خسرت نيودلهي تأثيرها على أفغانستان، لذا قد تحصل الهند على خيار بديل للوصول إلى البلد مجدداً عبر التعاون مع إيران.طوال عقود، شكّلت أفغانستان ساحة استراتيجية مشتركة لإيران وباكستان معاً، لطالما بحث الباكستانيون عن بيئة ودّية في جناحهم الغربي كي يتمكنوا من التركيز على خصمهم الجيوسياسي الأساسي شرقاً: الهند، وبالنسبة إلى الإيرانيين كان العالم العربي في غربهم يُعتبر تقليدياً جزءاً من الأولويات الإيرانية، في حين تحتل أفغانستان مرتبة ثانوية، لكن أهمية أفغانستان زادت في استراتيجيات الأمن القومي داخل البلدَين المتجاورَين بعد الانهيار المأساوي لجمهورية أفغانستان الإسلامية المدعومة من المجتمع الدولي.ستكون إيران وباكستان الأكثر تأثيراً على أي نتيجة في أفغانستان خلال عهد "طالبان"، حيث تتكل القوى العظمى، مثل الصين وروسيا، على علاقاتها الثنائية مع طهران وإسلام أباد لمنع الاضطرابات التي تشهدها أفغانستان من إعاقة خططها الاستراتيجية في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وإذا نجحت أفغانستان يوماً في إرساء درجة من الاستقرار، فسيحاول الإيرانيون والباكستانيون معاً الاستفادة من نفوذهما لتعزيز مصالحهما الاقتصادية في أفغانستان والمنطقة، لكن سيواجه البلدان صعوبة في منع المشهد الجيوسياسي الفوضوي من إضعاف أمنهما القومي في المستقبل المنظور.*كامران بخاري
دوليات
استمرار البحث عن الاستقرار في أفغانستان
28-01-2022