حسن بولهويشات: أستأمنُ القصيدة على أسراري
«أدوات النقاد عتيقة وأغلب الشعراء سطعت تجاربهم بعد موتهم»
في حوار أجرته معه «الجريدة» من القاهرة، انطلق حديث صاحب «قبل القيامة بقليل» و«القسوة تبدأ بسقوط تفاحة» و«بخفة رصاصة» من سنوات نشأته الأولى وكيف كانت سبباً في احترافه مهنة عرف لاحقاً أن اسمها الشعر! ورغم قوله إن الشعر يدفع المستحقات متأخراً وأغلب الشعراء سطعت تجاربهم بعد موتهم، يستأمن بولهويشات القصيدة على أسراره وأغراضه... وفيما يلي نص الحوار:
● حدثنا عن سنوات النشأة الأولى، وكيف كانت أصداؤها سبباً في دخولك إلى عالم القصيدة؟
- صعبٌ أن أتذكر البدايات بتفاصيلها، لكن قل معي إنّها طفولة عادية بالأبيض والأسود. هناك النهر وحقول البرتقال وموّال الجدات، ورغيف أمّي التي ارتبطتُ بها وجدانياً، ثم فيما بعد الهجرة إلى المدينة في حيّ شعبي متوتر بأدخنة المزابل والشتائم. بموازاة الوقوف في طابور المطعم المدرسي وكؤوس الحليب وعناقيد التمر التي كانت تصل من العراق. كنتُ عريساً صغيراً أصعد أدراج الدراسة بأنفاس مريحة، حتى إذا كبرت وقفتُ مفرداً مثل مسدس أتأمل مرور مواكب العرسان دون أن أفهم ما يجري.دعني أقفز على السطور وأحصل على الشهادة الابتدائية برقم تسلسلي 310، وألتحق بإعدادية مولاي إسماعيل، التي أعتبرها مهمّة في طفولتي، حيث الأولاد والبنات في منتهى اللطف، وملاعب الرياضة نظيفة والأستاذات في بداية مسارهن المهني، يرتدين الجينز ويمضغن العلك. كانت هناك التلميذة مريم بنتُ وكيل الملك التي تغدق عليّ بالابتسامة والمجلات الرياضية، وأيضاً قفازات ناعمة حين انتبهت إلى تشقق أصابعي من فرط البرد الذي كان قاسياً في تلك السنوات. كانت هناك أغاني الراي والشاب حسني الذي ظهر كالزوبعة فأفسد علينا كل شيء، ونسخة من سيرة محمد شكري "الخبز الحافي" بترجمة الطاهر بن جلون إلى الفرنسية.كان هناك المذياع الذي يتأوّه طوال الوقت بالأغاني الوجدانية، وقصائد العرشيّات في شهر مارس أيام الملك الحسن الثاني، وليالي شهر رمضان والدرّاجة النارية الخطيرة التي تتسلق حائط الخشب بشكلٍ عجيب... من وحي هذا كله وعلى مقربة منه، بدأتُ أتعلم المهنة الصعبة، قالوا لي فيما بعد اسمها: الشّعر.
● هل تشعر أن هذه المهنة الصعبة قد أنصفتك، وأن القارئ تعرّف على تجربتك الشّعرية؟
- ممكن ووارد، حيث وصلتني رسائل من كثيرين في أماكن بعيدة، بعضهم يشتغل في الطب وفي مهن القسوة لا علاقة لها بالشعر. ربمّا بفضل الإنترنت أو لأن هناك من يتحسّس الرائحة من مسافة بعيدة ويريد التعرّف عليّ. وإن كان الشّعر يدفع المستحقات متأخّراً كعاته، يعني أن أغلب الشعراء سطعت تجاربهم بعد موتهم. يهمني العبور إلى المقررات الدراسيّة، أكثر من النقد والإعلام. أريد من قصائدي أن ترفع التحديّ أمام جيلٍ مدرسي بأكمله، إمّا أن نغرق جميعاً أو ننجو جميعاً.● ديوانك الأول "قبل القيامة بقليل" ضمنته قصيدة "لم يعد هناك من سبب لأصير شاعراً"، إلى هذا الحد كان الوصلُ عصياً؟!
- كتبت هذه القصيدة في وقت تبرأت المؤسّسات الثقافية من الأدب والفنون، وخبا بريق الملاحق الثقافية، وتدفقت الفضائيات التي نجحت في استقطاب ضيوفها الشعبويين الشتّامين حيناً والنوّاحين في أحايين أخرى. كلّ ذلك بموازاة الثورة التكنولوجية ولمعان أزرار العولمة وذهول الإنسان. وأيضاً الهجوم على المساحات الخضراء التي نبتت في مكانها شققُ السكن الاقتصادي كأصابع الفلفل، وظهور البرجوازية الوقحة التي لا تؤمن إلا بلغة المال. وجدت نفسي، وأنا أكتب الشّعر، كسائح خذلته خطوط "جي بي إس"، خصوصاً أنّ الشّعراء صاروا مادة للتندر والسخرية. هذا هو السياق العام تقريباً الذي كتبت فيه القصيدة التي تحدثتَ عنها، بل إنّ ديواني الأول بأكمله يُبطن هذا الإصرار على الرفض والمحاكاة الساخرة.● في عام 2017 قلت إن هناك ضرورة للتمييز بين قصيدة النثر والقطع النثرية المرصوصة كلماتها على شكل أدراج العمارات والتي يكتبها رجال السياسة وسيّدات البيوت، كيف تقيّم مستوى قصيدة النثر الآن بعد مرور نحو خمس سنوات على هذا التصريح؟
- كنت أقصد هذا التسونامي (الشعري) الذي انبجس ماؤه العالي من جدران الفيسبوك وسال على ورق جرائد محلية مختصة بمشكلات المدن. أعني هذه الإنشائيات الفجة التي يكتبها كلّ من قرصته ذبابة صغيرة أو تعثّر بغصن شجرة يابس.بالمقابل ومنذ عهود، توجد قصائد عظيمة كتبها شعراءٌ غير عاديين هم أقرب إلى المجانين منهم إلى العقلاء والأسوياء، وتوجد تجاربٌ مهمّة في قصيدة النثر بالمغرب ودوّل أخرى شعراؤها يكتبون بالعربيّة، لكن المشكلة في النقاد الذين مازالوا يشتغلون بأدواتٍ عتيقة، بل لا ينطلقون إلا بعد استخراج الرخص من جهات معينة كما لو أنهم يستخرجون تراخيص البناء من البلدية.● "أشتري تذكرة خيال وأسافر" واحدة من أروع قصائدك، ماذا يعني الخيال بالنسبة إليك؟ وهل هو هروب من واقع لا يعجبك؟
- الخيال حظ الموهوبين من الشّعراء، وإن كنتُ شخصيّا لا أعرف شكله ولا لونه عدا تلك الإشارات التي وجدتها في الكتب، وحدَّثنا عنها أساتذة الأدب.ولكن مع ذلك، أعتبر نفسي مقيماً بأوراق ثبوتية في بلداتٍ بعيدة حيث الماء والأشجار، ولا أثر للرشاوى والأحقاد. أعيش هناك وأستأمن القصيدة على أسراري وأغراضي، وتأويني هي إلى حفرة صدرها محروساً بظلال الحمام الزاجل. أمّا الواقع فكلنا نعرفه، غير أنّ هناك من يتحايل عليه بالسفريات والموسيقى. وهناك من يذعن للإقامة الجبرية ويداري الأيام بأكل البطاطس والإيمان المغشوش فيموت كأنّه ما عاش ولا كان.● شعراء كُثُر يتحولون إلى عالم السرد، فهل نرى ذات يوم رواية تحمل توقيعك، خاصة أنك تعد رسالة دكتوراه في الرواية العربية المعاصرة؟
- يتردّد السؤال نفسه في الكثير من الحوارات الصحافية مع الشّعراء، كأن الشّعر هو وباء كورونا، لكن دعنا نميز بين فريقين من هؤلاء المهاجرين، بين فريقٍ اندفع بإيعاز من الجوائز الكبيرة المرصودة للرواية وبريق الإعلام وموضة العصر في الكتابة أيضاً، والفريق الثاني الذي توفرّت لديه القناعة بأهمية الرواية وقدرتها وحدها على استيعاب العالم وتغيّراته. في حالتي، كثيرون أشاروا إليّ بضرورة كتابة الرواية كما لو أنهم يغمزون على قصائدي التي لم ترقهم، ربّما، دون أن أتقصّى الحقيقة، ولكن أرجوك اعتبرني واحداً من أفراد الفريق الثاني وأمهلني بعض الوقت كي أوقع لك بقلمٍ الحبر الجاف، فلا أنتَ تلطخ قميصك ولا أنا شعرتُ بالإحراج.● ولكنّ مع ذلك، تكتب السرد والقصّة القصيرة أيضاً، أيّهما يستوعبُ مزاجك: الشعر أم السرد؟
- الشّعر صعب ومنفلت، وغزال بري قليل الظهور ومن رعايا الليل، بينما أجد السرد هادئاً ويتقبلني ونتفاهم معاً، ولم يحدث أن تخاصمنا.الشّعر حصّة تعذيب حقيقية، وأنّ هناك من يضغط عليّ لأعترف بجرائم لم أقترفها. يحصل أثناء كتابة قصّة قصيرة أن أتصدّق بدرهم وأفكّر في الصلاة، بينما في حصّة الشعر يمكن أن أكسّر زجاج النافذة أو أتصرّف بقسوة مع القط أو أتكلم في الهاتف بعصبيّة. أتنقل بين الضفتين من هذا المنطلق وبسلاسة في العبور، ففي أشعاري الكثير من السرد، وفي سردياتي الكثير من الشّعر.