بحث قضايا وليس تقييماً

في تناولي لقضية تكويت الوظائف في المقالات السابقة باعتبارها قضية وطنية وقضية دستورية، وأن تعيين غير الكويتي هو استثناء لضرورة، هي سد احتياجات البلاد، والضرورات تبيح المحظورات، إلا أنه يبدو أن قنوات التنافر الاجتماعي في الشبكة الإلكترونية قد عزلت ما كتبته عن سياقه، ونقلت عني- كما اعتادت- ما لم أقله، سوى أن التزود بالعلم والمزيد منه وتكثيف التدريب لكسب المهارات والخبرات، هي النواة الأولى لهذا التكويت، وإن استعجال النتائج يعتبر ثمرة فجة غير ناضجة، بما اعتبرته هذه القنوات تقييماً للشعب الكويتي، فاستدرجت من لم يقرأ مقالاتي إلى تصريح نسبته إليه، صدقاً أو كذباً، هو تساؤل: من هو شفيق إمام ليقيم الشعب الكويتي؟

Ad

ولا أعتقد أن نبرة الاستعلاء التي اتسم بها هذا التصريح على شعوب العالم كله تصدر من مثله، فشعوب الدول المتقدمة والدول العظمى، تخضع للتقييم العلمي الموضوعي والنزيه من كل الباحثين والدارسين في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، وأنزهه عن هذا التصريح، لأنه يعرف قدري حق المعرفة، ويعلم حبي للكويت ولشعبها الكريم فضلاً عما تربطه بي من علاقة طيبة.

ولي وقفة مع هذه القنوات التي تتسم بالنرجسية السياسية، في تزييف الحقائق ونقل المعلومات والكذب والافتراء لوأد الحقائق وإخفائها.

النرجسية السياسية

وهو أصدق وصف لقنوات التنافر الاجتماعي في هذا السياق، أنقله من ورقة عمل قدمتها الدكتورة سعاد الصباح في منتدى للفكر العربي، وهي أطروحة رائعة وقيمة للكاتبة الفاضلة حيث تقول: "نحن مصابون بنرجسية سياسية من نوع خطير، فكل الأيديولوجيات تبدأ بنا وتنتهي بنا، وكل الأفكار سخيفة إلا أفكارنا، وكل الأنظمة منحرفة إلا نظامنا، وكل الأحزاب مأجورة وعميلة ونحن وحدنا الأحسن... هذه الأنا السياسية المتضخمة فينا، تغلق الباب نهائيا أمام أي جدل فكري، أو مداخلة سياسية، أو نقد موضوعي. هذه النرجسية السياسية، جعلت العقل العربي عقلاً (ذا بعد واحد) أي عقلا مغلقا، ومصفحا وعاجزا عن إقامة أي حوار.

إننا ننزف عقليا لأننا لم نعد قادرين على رؤية الطريق ولا على تقدير المسافة بيننا وبين الأشياء، ننزف عقليا، ننزف عقلياً لأننا لا نقرأ إلا ما نكبته نحن، ولا نقنع إلا بمنطقنا، ولا نجد كلاما أفصح من كلامنا".

هذا بعض ما كتبته الكاتبة الفاضلة في المأزق العربي في الثمانينيات، ولكنه أصبح أشد وطأة وأكثر شراسة في عالم الشبكة الإلكترونية.

الحضارة ومقوماتها

إن مقومات الحضارة هي العلم والأخلاق والانفتاح على الآخر، والعمل هو نتاج تراكم الجهود والخبرات والمعرفة التي صاغتها العقول المستنيرة من خلال الحوار البناء، والانفتاح على الحضارات الأخرى في شتى المجالات في علوم وفنون وزراعة وصناعة، فالأخلاق هي اللبنة الأولى والحضارة هي دليل التماسك والقوة، والقدرة على تحقيق الاستقرار المجتمعي.

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ويقول الإمام الغزالي: "إن العبادات ليست طقوسا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيب المجهول، بل شرعت واعتبرت أركاناً في الإسلام والإيمان لتطهير النفس وتزكيتها، وترسيخ القيم الأخلاقية فيها"، يقول المولى عز وجل: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ"، ويقول سبحانه: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"، ويقول الله تعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...". وربط القرآن الكريم بين الصيام والتقوى في قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

والعلم هو ثاني مقومات الحضارة، وإن أول ما نزل من آيات القرآن الكريم: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، ويقول الإمام الغزالي: "إن هذه أول صيحة تسمو بقدر العلم وتنوء بقيمة العلم وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء الإنسان هو أن يقرأ ويتعلم". ولعل ما طالبت به في قضية تكويت الوظائف هو التزود بالعلم والمزيد منه قد أغضب البعض مني الذي يعتقد أنه يعلم كل شيء، وأنه ليس في حاجة إلى مزيد من العلم لتبوء كل الوظائف العامة وبلا استثناء، والحقيقة أن من يساوره هذا الاعتقاد لا يعلم شيئاً، فقد ورد في آيات القرآن الكريم البينات: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

● المستشار شفيق إمام