كأنَّ الجعبة قد فرغتْ، ولم يعد لدى مصر أوراق للضغط أو للتفاوض بشأن سد النهضة، غير الحديث عن "انهياره" المفاجئ، فقد اختفت أصوات اللجوء للخيار العسكري ولم يعد في الأفق ما يشير إلى أن المواجهة قد تقع بين ليلة وضحاها، ما الذي حصل؟ هل أخذت مصر تطمينات بأن حصتها من مياه نهر النيل والبالغة 55 مليار متر مكعب سنويا مضمونة، ولن يقترب منها أحد؟ أم أن إثيوبيا تراجعت عن مراحل ملء السد إلى ما دون الـ74 مليار متر مكعب كما هو مخطط له؟لندع فكرة "الانهيار" جانباً وإن كان خبراء الجيولوجيا لا يستبعدون حدوثها لأن البيانات المتوافرة تشير إلى أن ثمة ما يقرب من 10 آلاف زلزال، تفوق قوتها 4 درجات على مقياس ريختر، حدثت بالقرب من موقع السد.
ولندع فكرة "عدم الأمان" جانباً وإن كانت دراسة شارك فيها علماء مصريون وأميركيون أكدوا وجود هبوط أرضي في موقع السد ومشاهد وصور كثيرة تكشف عن إخلال جسيم بعوامل الأمان وتشير لعوامل إزاحة وتحرك بمختلف الاتجاهات.أجندة السد وما رافقه من صخب ومواجهات سياسية عالية جداً كانت هادئة إلى حد كبير، ليس عام 2021 فقط، بل في السنة الحالية 2022، فالخطاب السياسي المصري وفي أجواء الوساطة التي تقودها الجزائر حددت سقف الخطاب "بالوصول إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل بشأن ملء وتشغيل السد يراعي مصالح الدول الثلاث". هذا يعني أنها سلكت الخيار الدبلوماسي ووضعت مصالح إثيوبيا في الاعتبار تماماً كما هو أمنها ومصالحها في المستوى نفسه.توقفت المفاوضات منذ سنة تقريباً بعدما وصلت إلى نقطة مسدودة، فلا مجلس الأمن قام بدوره ولا الاتحاد الإفريقي قادر على إنجاح الوساطة، بعدما انسحبت أميركا من هذا الملف الساخن والخطير، والواقع أن الجهة التي عطلت التفاوض هي إثيوبيا وامتنعت عن التواصل مع دولتي المصب السودان ومصر.لم تفلح الجزائر في حلحلة "الأزمة" وإثيوبيا والسودان انهمكتا بصراعاتهما وانقساماتهما وحروبهما الداخلية، ولم يعد ملف السد يحظى بالأولوية والاهتمام وإن تعمل أديس أبابا على استدراج مصر للتوقيع على "اتفاقية عينتيبي" التي رفضتها القاهرة، لأنها تعيد تقسيم حصص المياه ولتسقط عن مصر حقها التاريخي، وإن كانت منحت موافقتها بالتوقيع على اتفاقية "إعلان المبادئ" عام 2015 وأقرت بموجبها مشروعية وجود السد.الآن الكلام يدور حول الملء الثالث، بدءاً من صيف 2022 بعدما اكتملت عمليتا الملء الأولى والثانية وجرى وبنجاح تركيب تسع توربينات من أصل 13 توربيناً لتوليد الكهرباء، السؤال: هل ستمر عملية الملء الثالثة كما مرت العمليتان الأولى والثانية بسلام، وتستكمل إثيوبيا "تعلية الممر الأوسط" لاستيعاب الكميات المتدفقة من المياه؟الموقف المصري لا يزال يرفض الأمر الواقع وكذلك السودان دون أن تتزحزح إثيوبيا مسافة متر واحد عن رفضها الالتزام بحصة مصر التاريخية، بل هي ماضية في استكمال الملء مع تجاهل تام لكل الدعوات والمطالبات التي خرجت من القاهرة والخرطوم.الأزمة بلغت "نقطة الانسداد" بعدما تراجع الخيار العسكري، وتوقفت المفاوضات، والشيء الوحيد الذي لم يتبدل أو يتوقف هو عمليات ملء السد كما هو مخطط لها من قبل إثيوبيا، فهل فات الأوان للوصول إلى "اتفاق ملزم" أم ما زال هناك متسع من الوقت؟كيف تستوي الحال، بين احتمال انهياره بوجود عيوب فنية وهندسية في إنشاء السد وبين استكمال عمليات الملء وتشغيل التوربينات لتوليد الكهرباء، وأين يقع حجم الضرر المائي المحقق لدولتي المصب بين الانهيار والملء؟الحصول على المياه ليس سلعة تباع وتشترى بل هو حق للإنسان المصري والسوداني مثلما هو حق للإثيوبي، إنما بعدالة ووفق القوانين والمواثيق الدولية لا بالاستحواذ!
مقالات
لا مفاوضات ولا مواجهات فالسد على أبواب الملء الثالث
31-01-2022