في منتصف سبعينيات القرن الماضي تقدم 3 من أعيان بادية خليجية، يرافقهم شاب في أول العشرينيات من عمره، إلى عمدة القرية طالبين منه ورقة رسمية من مكتبه تثبت أن هذا الشاب ولد في البادية ولا يحمل أي إثبات لشخصيته أو تعريف بهويته، فلا شهادة ميلاد ولا جواز سفر ولا بطاقة عمل، وادَّعوا– زوراً ودون سند قانوني– أن والديه توفيا عندما كان صغيراً، وأنهم يشهدون بذلك ومستعدون للتوقيع على تلك الورقة الرسمية التي يجب أن يصدرها العمدة، تردد العمدة في إصدار هذه الورقة فأخبره الأعيان بأنهم سيدفعون للعمدة أي مبلغ يطلبه لأن الجهات الرسمية، مثل وزارة الصحة العامة أو وزارة الداخلية أو وزارة العمل أو غيرها، وبسبب الروتين والبيروقراطية، قد تتأخر في إصدار هذا المستند لفترة طويلة قد تمتد لسنوات، هذا في حال لو وافقت الجهات الحكومية على إصدار أي إثبات بأن الشاب ولد في البادية. واصل العمدة إصراره على عدم إصدار مثل هذه الورقة التي لم يكن قد سمع عنها من قبل، رافضاً مطالب أعيان البادية خوفاً من أن يكون هذا الشاب من أصحاب السوابق أو أنه ارتكب جريمة ويحاول هؤلاء مساعدته في إخفاء جريمته من خلال التغطية على هويته الإجرامية، ولكنهم حلفوا اليمين بأنه يتمتع بحسن السير والسلوك ويرغب في البحث عن عمل شريف، وأن مشكلته الوحيدة هي عدم امتلاكه هوية شخصية، إلا أن العمدة استمر في عناده ورفض هذا العمل غير القانوني رغم معرفته الشخصية بأعيان البادية، فهمس أحدهم في أذن العمدة مؤكداً له أنهم سيدفعون من فورهم مبلغاً محترماً للعمدة إذا وافق على طلبهم، فوافق العمدة على إصدار تلك الشهادة بعد أن طلب ضعف المبلغ المعروض، ووعدوه بأنهم سيتقدمون من العمدة بطلب شهادات أخرى لآخرين لهم ظروف اجتماعية مشابهة في المستقبل القريب، وبقيمة المبلغ الأول نفسه، فلم يبد العمدة اعتراضاً، بل مرت الأيام والسنوات لتصبح مسألة إصدار مثل هذه الشهادات المزورة استثماراً مجزياً للعمدة يمارسها في السر حتى أصبح من الأثرياء.
بعد بضع سنوات تسلم العمدة كتاباً من وزارة العدل للمثول أمام النيابة العامة بتهمة التزوير في أوراق رسمية، وهي التهمة التي أنكرها العمدة جملة وتفصيلاً، ولكن وبعد عرض بعض الأدلة المادية عليه خر معترفاً بجريمته متعللاً بأنه أصدر تلك الأوراق بحسن نية. لقد اكتشفت أجهزة الأمن الخيوط الأولى للجريمة عندما قبضت على أحد البدون متلبساً بالجريمة، فطبعت بصماته، وبعد معاينتها اكتشفوا أنها بصمات مقيم باسم مختلف دخل ذلك البلد بشكل قانوني عبر المنافذ البرية قبل سنوات، وبعد التحقيق مع المتهم تبين أنه هو ذاك المقيم نفسه، لكنه أتلف جواز سفره بعد أيام من دخوله "الرسمي"، ثم صدرت له ورقة من العمدة تثبت أنه مولود في البادية، وهي حيلة لجأ إليها كثيرون من البدون الذين يقطنون هناك. هذه القصة نقلها إلى مسامعي أحد القضاة الخليجيين من الذين كان لهم دور فاعل في الكشف عن جرائم البدون وجرائم الياقات البيضاء في بلاده، فهل تنتبه أجهزتنا الأمنية إلى "بدون" عندنا قد يرتكبون المخطط الإجرامي نفسه الذي ارتكب في تلك البلاد؟ نرجو ذلك.
مقالات - اضافات
بقايا خيال: أين الهوية الحقيقية للبدون؟
04-02-2022