عندما أحبّ فلاديمير بوتين حلف الناتو
الأمين العام لحلف الناتو السابق جورج روبرتسون هو الرجل الذي يعرف أفكار بوتين حول الأمن الروسي والأوروبي، فسبق أن نجح في التعاون معه في مسائل شائكة جداً، وهو يراقب اليوم تفاقم الأزمة الأوروبية ويشعر بالذهول بعد تغيّر آراء بوتين، لكن أفكاره قد تسهم في توجيه صانعي القرار الغربيين لتجنب الحرب مع روسيا.
تجاوز العالم للتو أسبوعاً آخر من دون اندلاع حرب كبرى في أوروبا، ونظراً إلى استياء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الغرب وتحذيرات حكومته المتكررة من وقوع عواقب كارثية غداة المفاوضات مع الناتو في الأسبوع الماضي، لن يستمر هذا الهدوء بالضرورة خلال الأسابيع المقبلة.يعرف رجل واحد أفكار بوتين حول الأمن الروسي والأوروبي، وسبق أن نجح في التعاون معه في مسائل شائكة جداً، وهو يراقب اليوم تفاقم الأزمة الأوروبية ويشعر بالذهول بعد تغيّر آراء بوتين، لكن قد تسهم أفكاره في توجيه صانعي القرار الغربيين لتجنب الحرب مع روسيا، هذا الرجل هو أمين عام حلف الناتو السابق، جورج روبرتسون.في ليلة ثلجية من شهر فبراير في عام 2000، وصل روبرتسون إلى موسكو لمقابلة بوتين للمرة الأولى على الإطلاق، ولم يكن روبرتسون يعرف الزعيم الروسي الجديد حينها لأن الرئيس بوريس يلتسين المنتهية ولايته كان قد عيّنه للتو.
اعتُبِر الوصول إلى العاصمة الروسية انتصاراً لروبرتسون الذي عُيّن كأمين عام حلف الناتو قبل سنة، بعدما كان وزير الدفاع البريطاني: عادت العلاقات بين روسيا والناتو لتتجمد في هذه الفترة بعد ذوبان الجليد بينهما في بداية ومنتصف التسعينيات، وفي عام 1999، أطلق الناتو حملة قصف ضد الوحدات الصربية في يوغوسلافيا السابقة التي كانت تنفّذ حملة تطهير عرقي ضد جماعات إثنية أخرى، لا سيما في كوسوفو.تلك الحملة سبّبت شرخاً هائلاً مع موسكو التي كانت حليفة قديمة لصربيا، وعند تعيين بوتين في منصب رئيس الحكومة في أغسطس 1999، كان الصراع يوشك على الانتهاء، لكن بقيت النوايا الروسية السيئة تجاه الناتو على حالها، وتذكّر روبرتسون تلك الفترة في مقابلة مع صحيفة "فورين بوليسي" في الأسبوع الماضي، فقال: "كان الروس مستائين جداً من كوسوفو. لقد شعروا بأن الطرف الآخر فاجأهم أو حتى غَدَرهم".قرر روبرتسون، بعد وقتٍ قصير على تسلمه منصبه في الناتو، السفر إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأميركي بيل كلينتون الذي شارك في التفاوض حول "قانون تأسيس الناتو وروسيا" الذي أُقِرّ في عام 1997 ووافق عليه الطرفان للتعاون والتشاور، لا التهديد باستعمال القوة، حتى أن الناتو تعهد بعدم نشر أي أسلحة نووية في أراضي الدول الأعضاء الجديدة، وقال الرئيس الأميركي حينها إن إعادة بناء العلاقات مع روسيا يُفترض أن تصبح على رأس أولويات روبرتسون، وسرعان ما توصّل الأمين العام شخصياً إلى الاستنتاج نفسه.
الأقوال أسهل من الأفعال
لكن الأقوال تبقى أسهل من الأفعال طبعاً، فقد كان سفير روسيا في حلف الناتو، سيرغي كيسلياك (أصبح لاحقاً نائب وزير الخارجية، وهو اليوم عضو في مجلس الاتحاد في البرلمان الروسي)، مسؤولاً متشدداً وبدا وكأنه يكره روبرتسون الذي دعم تدخّل كوسوفو، فجرّب روبرتسون جميع الوسائل الممكنة مع كيسلياك، فأخبر السفير بأنه مستعد للتحاور مع المسؤولين الروس، وعبّر عن استعداده للسفر إلى موسكو، وشدّد على علاقاته القديمة مع روسيا.لكن لم تنجح هذه المساعي كلها. يقول روبرتسون: "لم تُعطِ جهودي أي نتيجة إلى أن وصل بوتين إلى السلطة في السنة اللاحقة، وفي تلك المرحلة، تكلمتُ مع إيغور إيفانوف (وزير الخارجية الروسي في تلك الفترة)، وبعد وقتٍ قصير، وردتني مكالمة هاتفية من روسيا حيث قيل لي: "إذا أردتَ أن تطلب مقابلة في موسكو، قد نفكر بطلبك بإيجابية"، وفي فبراير 2000، وصل روبرتسون إلى موسكو، وكان يأمل بكل بساطة أن يقابل أشخاصاً أكثر ترحيباً من كيسلياك.كان روبرتسون وبوتين رجلَين مختلفَين من حيث الشخصية والخلفية: روبرتسون هو رجل اسكتلندي ودود كان ناشطاً سياسياً في أيامه الجامعية، وهو ينتمي إلى "حزب العمال" ومعروف بمرحه ونزعته المنطقية، أما بوتين، فقد اعتُبِر خياراً مفاجئاً بعد يلتسين ولم يعرف الناس معلومات كثيرة عنه.حتى هذا اليوم، يزداد الغموض حول بوتين بسبب ماضيه السري، لكنّ المسائل التي قالها هذا السياسي لمعارفه الجدد في بداية مسيرته تجاوزت ما كان يتمناه روبرتسون، حيث يتذكر هذا الأخير تلك الفترة قائلاً: "قال لي بوتين: "أريد تجديد العلاقات مع حلف الناتو. سيحصل ذلك تدريجاً، لكني أريد تحقيق ذلك"، ثم أضاف: "أريد أن تصبح روسيا جزءاً من أوروبا الغربية، هذا هو مصيرنا، كانت الأجواء ودّية جداً معه". تعكس التقارير الإعلامية الصادرة في تلك الحقبة هذا الشكل من التفاؤل أيضاً، فقد صرّح روبرتسون للصحافيين بعد اللقاء الثنائي مباشرةً: "أظن أنه يشاركني رأيي حول ضرورة إنهاء البرودة بين الطرفين، ويبدو أننا انتقلنا من التربة الصقيعية إلى أرض أكثر ليونة بقليل".لم يحمل أيٌّ من الرجلَين أوهاماً كبرى حول احتمال أن تنضم روسيا إلى أوروبا الغربية في أسرع وقت، لكنّ الأجواء الودية خلال ذلك اللقاء الأول جعلتهما يستنتجان أنهما يستطيعان التعاون بوتيرة تدريجية، ويضيف روبرتسون: "في المرحلة اللاحقة، تناولتُ الغداء مع إيفانوف وأعضاء من الأوساط الدبلوماسية، وانتشرت أجواء إيجابية قوية تحت شعار "كنا أعداءً في السابق، لكن لنعمل الآن على بناء علاقة جديدة". كجزءٍ من "قانون تأسيس الناتو وروسيا"، نشأ "المجلس المشترك الدائم" الذي يتألف بشكلٍ أساسي من مجلس شمال الأطلسي وروسيا، على أن ترأسه روسيا والناتو بالتناوب، ويوضح روبرتسون: "ترأس كيسلياك أحد الاجتماعات، وأنا ترأستُ اجتماعاً آخر وهكذا دواليك، كانت الأجواء مشحونة، وركّزت الاجتماعات في معظمها على التكلم حول البلقان، ولم تكن اللقاءات مثمرة جداً". في الوقت نفسه، كانت حكومات دول الناتو تتوق بدورها إلى تكثيف التعاون بين الحلف وروسيا، يقول روبرتسون: "في تلك المرحلة، وافق بوتين على ضرورة إنشاء مجلس جديد يرأسه أمين عام حلف الناتو، كان ذلك القرار بالغ الأهمية من جانب الروس، فهو يعكس تحولاً كبيراً في مواقفهم".خلال أول اجتماع لـ"مجلس الناتو وروسيا"، كان روبرتسون رئيس المجلس الوحيد، حصل جميع رؤساء الدول والحكومات على فرصة التكلم، ثم يتذكر روبرتسون أن بوتين طلب التكلم مجدداً، فسمح له بذلك، وقال الزعيم الروسي حينها: "لقد لاحظتُ، يا حضرة الأمين العام، أنك رئيس "مجلس شمال الأطلسي" ورئيس "مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية" أيضاً، وها قد أصبحتَ الآن رئيس "مجلس الناتو وروسيا"، فهل أستطيع أن أقترح تسمية مقر الناتو "بيت المجالس" (House of Councils)"؟ كانت كلمة Council تعني "السوفياتي" باللغة الروسية، وقد أدرك المترجم الفوري أن بوتين يلعب على الكلام، فترجم موقفه بعبارة "بيت السوفيات" (House of Soviets).علاقات شخصية
يضيف روبرتسون: "شعر الوفد البولندي بالذعر، لكنها كانت مجرّد مزحة، وكانت هذه الأجواء اعتيادية في تلك الفترة، لقد أطلقنا تعاوناً بارزاً في مجالات كثيرة تهتم بها جميع الأطراف، مثل مكافحة الإرهاب، والانتشار النووي، وعمليات البحث والإنقاذ عبر الغواصات. لم تقتصر جهودنا على تنظيم اجتماع خلال قمة عابرة ثم توضيب أغراضنا والمغادرة"، فكانت مسألة البحث والإنقاذ عبر الغواصات بالغة الأهمية طبعاً بعد كارثة غواصة "كورسك" التي أسفرت في عام 2000 عن مقتل 118 شخصاً من الطاقم الروسي، وعلى صعيد آخر نشأت علاقة شخصية مثمرة بين الرجلَين، فقد شعر روبرتسون بأنهما قادران على التوافق وبدا وكأن بوتين يوافقه الرأي. كان يمزح من وقتٍ لآخر ويقتبس كلام رئيس الوزراء البريطاني السابق وينستون تشرشل.ثم وقعت اعتداءات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، وردّ حلف الناتو سريعاً عبر استحضار المادة الخامسة التي تطالب جميع الأعضاء بتقديم المساعدة للدولة التي تعرّضت للهجوم، لكن علاقة روبرتسون والحلف مع روسيا صمدت رغم هذه الأزمة أيضاً، حتى أن بوتين أبدى استعداده لتكثيف التعاون. خلال اجتماع في بروكسل بعد هجوم 11 سبتمبر بفترة قصيرة، طرح الرئيس الروسي السؤال التالي على روبرتسون: "متى ستدعون روسيا للانضمام إلى حلف الناتو"؟يوضح روبرتسون: "كان ذلك اللقاء مباشراً بيننا ولم يحضره إلا المترجمون الفوريون، قلتُ له: "نحن لا ندعو الدول للانضمام إلى الناتو، بل تقدم الدول طلباً للانتساب إلى الحلف، ثم نتخذ قرارنا"، فقال بوتين: "نحن لن نقف في الصف مع دول غير مهمة أخرى بانتظار دورنا". فقلتُ له: "حسناً إذاً، لنبدأ ببناء علاقاتنا الدبلوماسية وسنرى إلى أين تقودنا هذه الجهود".لكن حتى الخيبة التي شعر بها بوتين حين سمع أنه قد يضطر لانتظار دوره مع الدول الأصغر حجماً لم تُخمِد نزعته إلى التعاون، ثم عقد روبرتسون وبوتين مؤتمراً صحافياً مشتركاً بعد نقاشهما. يتذكر روبرتسون ما حصل حينها قائلاً: "سألني صحافي فرنسي معتاد على طرح أسئلة غريبة من صحيفة "لوموند" إذا كنتُ قد أخبرتُ بوتين بمطالب الولايات المتحدة حول حقوق التحليق والوصول إلى الموانئ ومسائل أخرى يريدها الأميركيون بموجب المادة الخامسة. شعرتُ حينها بالانزعاج من نفسي لأنني لم أذكر هذه النقاط خلال الاجتماع، لكن قال بوتين قبل أن يتسنى لي التكلم: "لا، هو لم يذكر شيئاً عن هذه المسائل. ما الداعي لذكرها أصلاً؟ هذه المسألة مرتبطة بالناتو ولا علاقة لها بروسيا". كان جوابه مفيداً جداً".سرعان ما انتهت الأجواء الإيجابية كلها، وحصل شرخ كبير بين روسيا وحلف الناتو بسبب الحرب الروسية ضد جورجيا في عام 2008، ثم توسّع الانقسام بينهما بعد غزو أوكرانيا في العام 2014، واليوم، أصبحت العلاقات بين روسيا والناتو سيئة لدرجة أن يتوقع الكثيرون وقوع هجوم عسكري روسي.في ما يخص مسائل مثل إيران، ستستفيد روسيا اليوم من التعاون مع الناتو لأن الصواريخ الإيرانية لن تستهدف واشنطن، لكنها قد تضرب موسكو. برأي روبرتسون، يجب أن تتعاون روسيا مع الناتو في الملفات التي تهمّ الطرفَين خدمةً لمصالحها الخاصة.في الوقت الراهن، يقول بوتين وأعوانه إنهم يدافعون عن بلدهم، لكنهم قد يسيئون إليه أكثر من أي تحالف مضاد لروسيا، إذ يستطيع روبرتسون أن يخبر بوتين بهذه الحقائق، لكن حتى هو بات عاجزاً عن اختراق الأسوار التي بناها الرئيس الروسي من حوله.* إليزابيث بروForeign Policy
بوتين وأعوانه يقولون راهناً إنهم يدافعون عن بلادهم لكنهم قد يسيئون إليها أكثر من أي تحالف ضده
روسيا ستستفيد اليوم من التعاون مع «الناتو» لأن الصواريخ الإيرانية لن تستهدف واشنطن لكنها قد تضرب موسكو
روسيا ستستفيد اليوم من التعاون مع «الناتو» لأن الصواريخ الإيرانية لن تستهدف واشنطن لكنها قد تضرب موسكو