لم يبقَ من سندباد سوى الذاكرة التي تشعّ منها روح العبث وفقدان البوصلة، إنه العمى في أوج تجلياته، حيث المغامرة التي تشكل حدّا فاصلا بين الحاضر والماضي، وستتغلغل في عمق وجدان الضحية، وتطارد حتى أجياله اللاحقة. العمى الذي تغلغلَ في التفاصيل، حيث البرزخ الطائفي الذي يؤدي إلى تحطيم المشاعر المشتركة، وجعل الناس يتخندقون في قوقعةِ قناعات متوارثة، عمى الحب الذي لا يمتلك شروطه، وعمى عبودية المرأة الشرقية لمجتمع ذكوري، وعمى البراءة ممثلا بالهرّة العمياء التي لا تمتلك القدرة على البقاء وحيدة، والتي قُذفت إلى المجهول بدعوى التطهّر من الرجس، وهي المعادل الموضوعي للطفلة مناير، التي تسبح في بحر من عمى الكبار الذين ما انفكوا ينصبون المتاعب لأنفسهم، في ظل ظروف شرسة وحادة كالسكين، حيث البلد يتعرّض لزلزال الاحتلال الذي عصف بكل القيم السائدة ما قبله وما بعده.

هذا ما انطوت عليه تجربة الكاتبة الكويتية بثينة العيسى في روايتها "السندباد الأعمى"، التي صدرت عن دار تكوين للطباعة والنشر في أواخر العام الماضي ٢٠٢١، والتي توّجت جهدها الروائي الذي تشكّل قبل 20 عاما، وأنتج هذا الفيض الروائي الكبيرا كمّا ونوعًا.

Ad

يبدأ الزمن الروائي من لحظة انفلات أمني، حيث تتفجر بوابات السجن من قِبَل نزلائه الذين وجدوا أنفسهم شبه أحرار من قيود أحكامهم التي تخص الجنح والجرائم، ومن بين هؤلاء بطل الرواية نوّاف، الذي لم يصدّق حريته التي جاءت نتيجة عاصفة غير متوقعة، أصبح على أثرها الوطنُ سجينا في ظل أسوار احتلال غير متوقع. فيعود إلى عائلته، ومن هناك نطل على البدايات، لأنّ الكاتبة بثينة العيسى حاولت أن تنتهج تكنيكا قصصيا يتيح لها الحرية في تحريك الشخوص وأفعالهم، من خلال زوايا مختلفة، تلتزم بأسلوب فنّي قائم على أسس النسج مرة والرتق مرة أخرى، فهي تنسج الكثير من الحكايات التي تنهمر عن شخوصها، وأن هذا النسيج يبدأ بالنمو من خلال التراكم الزمني الذي استغرق مرحلة الاحتلال إلى التحرير.

كما تقوم باللصق (الكولاج) مرة أخرى، من خلال تجميع الصور المتنافرة، موقف العسكر من الجيش العراقي والذين يقومون بتصفية جسدية لأفراد من مقاتلين ضُبِطوا متلبسين بالسرقة، أو بين الأزمنة المتباعدة كموقف مناير حينما تجاوزت الثلاثين، وحاولت الدفاع عن حرّيتها بواسطة سلاح التمرد على ما هو سائد، كمحاولة منها للدفاع عن أمّها التي لم تُقتل فحسب، وإنما ألغيت من الذاكرة، لأنّها لا تمثّل إنسانا فقد حياته، وإنما عار ينبغي أن يُغسل.

أدواتها الكتابية

كانت العيسى متمكنة من أدواتها الكتابية في شدّ القارئ، فقد رسمت الفصول وأجزاءها بشكل يتماهى مع عنصر التشويق الذي يداعب القارئ العادي في مطاردته للأحداث كي يعرف النتائج، لذا فإن الرواية تشتغل على هذه العناصر، وذلك من خلال طرح المشاكل التقليدية، التي تزخر بها الأفلام والمسلسلات عن الحب والخيانة والغَيْرة والصداقة والشهامة والكرم، ولكنّ القارئ المتمرس الذي يبحث عمّا وراء قشرة هذه الظواهر، سيجد ضالته أيضا من خلال عمق الأفكار التي وردت، والتي لا تمنح نفسها بسهولة من خلال غلالات من رموز شفافة.

مجتمعات محافظة

فقد نجحت الكاتبة في تناول الكثير من التابوهات كالجنس والتحرر والانغلاق والطائفية، في مجتمعات محافظة من ناحية، وأحادية المنظور من ناحية أخرى، كما أنها تعرّضت بشكل هادئ وغير مشبّع بالعاطفة وهتافاتها إلى ظاهرة الاحتلال الذي مزّق القشرة السائدة، حيث ظهرت الكثير من التصدعات غير المرئية في بنية المجتمع.

ورغم أن غزو النظام العراقي للكويت واحتلالها كان بمنزلة العاصفة، فإنه لم يأخذ حيّزا كبيرا من أحداث الرواية، لأنّ الكاتبة اشتغلت على مفهوم أكثر عمقا من الاحتلال العسكري، وهو الهزيمة في العقل والهشاشة التي تربط خيوط المجتمع، وهي بمجموعها إشكالات غير مرئية، كشفتها أحداث الرواية وأبطالها الذين كانوا يعيشون واقعا حادا، تهيمن عليه السلطة الذكورية المطلقة، وشيوع بعض القيم والعادات والتقاليد التي تعجز عن مواجهة التحدي الراهن.

الكيان الأسري

لقد بدأ التصدع في جدار الكيان الأسري، لأنّ البدايات قلقة وغير متوازنة، فرغم أن السبب في عدم زواج نادية بعامر، هو أمرٌ عابر على صعيد السياق، وذلك لأنّ أم عامر وأباه رفضا ذلك الزواج للاختلاف المذهبي، ورغم أنه حالة متجذرة، ومسكوت عنها، فإنها من الأسباب الرئيسية التي تمهد لحالة الضعف والهزال في التماسك الاجتماعي، فعامر يتخلى مُرغما عن حقّه في الحب والعيش والمستقبل من خلال الارتباط نادية بمؤسسة الزواج، مع أنهما يعيشان حالة من الوئام والمحبة.

وعلى النقيض من ذلك، فإنّ اقتران نوّاف بها، يعكس هذا الوهن في التماسك، فليس ثمّة من مشتركات أو عواطف أو إعجاب بينهما لا في التوجهات أو الميول أو المستوى الثقافي، وليس بينهما سوى المشترك الواهي الذي حجبها عن عامر.

الزاوية الضيّقة

وكانت النتيجة كارثية، حيث تقرر نادية الشابة المثقفة والمشبعة بأفكار متحررة، أن تتمرد على الزاوية الضيّقة التي وجدت نفسها محشورة فيها، علاقة زوجية تفتقر إلى كل مواصفات ما حلمت وطمحت إليه في كل مساراتها الدراسية، ولاسيما الجامعية منها، نادية المشغوفة بالتجربة والطموحة والتي تعلّمت السباحة حينما "قذفها أبوها في البحر من سطح قاربه. ثم ظل واقفا ينظر إليها، وهي تضرب الماء بذراعيها وتصرخ بأنها ستموت".

هذه المرأة التي تعلّمت السباحة في أجواء التحدي والقسوة، أرادت تأكيد ذاتها في البحث عن حبيبها الحقيقي، في مغامرة محفوفة باليأس والمخاطر، لكنها أرادت من خلالها أن تؤكد كينونتها كإنسان لا كأنثى في مجتمع ذكوري، من خلال التمرد على تابوات المجتمع.

وكانت نتيجة ذلك أن فقدت حياتها، لأنها تجرأت على تحدّي الشبكة المعقّدة من الأعراف والقوانين، مما حدا بزوجها نوّاف إلى أن يتعقبها ليلا وهي تسير إلى شاليه صديقه عامر، ومع أن السياق لا يكشف تفاصيل الخطيئة بالتفصيل، إلا أنّ ردة فعل زوجها نوّاف كانت حادّة، فقتلها غسلا للعار أو انتقاما أو حفاظا على كرامته، كما استطاع أن يسبب جروحا بالغة في وجه صديقه القديم عامر، وإذا كان الجرح الجسدي قد تعافى على مضض، فإنّ الجرح النفسي قد بقيَ نازفاً.

غير أن غزو الجيش العراقي للكويت خلق فراغا أمنيا وفوضى سرت في جميع مفاصل الحياة، مما جعل نوّاف يخرج من سجنه، بعد أن هرب السجانون وترك هؤلاء تحت رحمة أقدارهم، وكانت حالة الفوضى في السجن، تشابه خارجه، فالكل أصبح تحت قبضة سجّان طارئ، بعد فوضى جعلت السجناء في غمرة البحث عن الحرية، ينسون إنقاذ بعض رفاقهم: "بعض المرويات غير المحققة تقول إنهم نسوا واحدا، وُجِدَ بعد أسبوع ميتا من الجوع، قابضا على القضبان بأصابع متيبّسة".

وكان من مظاهر هذا الانفلات خروج نوّاف من السجن، وعودته إلى بيته، ومحاولة طمس ذكرى زوجته نادية، من خلال التخلص من ملابسها وكتبها وآثاثها وحليّها وأسلوب عيشها، وقد انعكس هذا على طفلتها مناير التي عاشت عزلة عن الجميع، حيث إن أباه كان يعاملها بجفاء، والجدة تعاملها بخشونة، حتى الهرّة العمياء التي اتخذت منها صديقة ألقي بها في الشارع؛ لتلقى مصيرها في موقف هزّ مشاعر الطفلة، وكشف عن حدة العواطف التي تتحول إلى مجرد حجارة تتساقط على جدار العواطف.

عوالم مضطربة

ورغم أن مناير كانت طفلة لا تعي غياب أمها، ولا تعي فداحة الغزو أيضا، فإنّ هذين العاملين شكّلا شخصية أخرى لها أكثر قوة وتمردا من أمّها الراحلة، وقد استطاعت في نهاية الرواية أن تتحرر من سطوة العادات والتقاليد حينما طلبت الطلاق من ابن عمّتها فوّاز.

وقد يكون القارئ مصيبا حينما يشعر بأن مناير الطفلة في الرواية قد استمدت شخصيتها من طفولة الكاتبة ذاتها من حيث العمر والنظر إلى العوالم المضطربة المحيطة بها، ولاسيما على صعيد المخاض العنيف الذي عاشته في تلك الظروف القاسية كالحرب والاحتلال والتحرير، وتدمير الجيش العراقي من قِبَل الحلفاء، إنها بوابات الجحيم التي انفتحت في مرحلة زمنية شكّلت منعطفا في تاريخ المنطقة.

وإذا كانت شخصية نوّاف مأزومة ومضطربة، لأنها تختزن الأضداد، فهو قادرٌ على الفعل ونقيضه، فرغم جريمة القتل التي ارتكبها، ولكنّه لا يشعر إلا بنزعة الحقد والثأر للدفاع عن سمعته، ففي الوقت الذي أنقذ غريمه عامر من معتقل المشاتل بواسطة الرشوة، فإنه يستدرجه في مناسبة لاحقة إلى فخٍ لا يعود منه أبدا، رغم أن الكاتبة لم تكترث لمتابعة كيفية تم الاختفاء، بل تركته مفتوحا لكل الاحتمالات.

أما عامر فيمثّل الشخصية المثقفة الواعية التي تتسلح بالفن والمعرفة، من خلال العزف وقراءة الكتب، وهي شخصية حالمة، تعيش على وهمها، ورغم ما يبدو عليه من إيجابية، فإنه سلبي وغير قادرعلى الانسجام مع الواقع.

متشعبة الفصول

ورغم أن السندباد الأعمى رواية غير قصيرة ومتشعبة الفصول، فإن الكاتبة استطاعت أن تسيطر على خيوطها بإتقان ومهارة، كما تميّزت لغتها بالأناقة والشفافية، وذلك بتصوير وبناء شخوصها وتصوير مشاعرهم المختلفة، إنها اللغة الروائية التي استخدمت فيها تكنيكات قصصية رشيقة ومناسبة، حيث تبدأ من نهايات الحدث، ثم تنتقل إلى جزئياته، فلا تمنح القارئ فرصة معرفة أسرار السرد بسهولة، إلا بعد أن يتشبع بخيوط الأحداث الموالية، كما أنها تعمدت أن تترك بعض الجوانب سائبةً ومن دون نهايات، وكأنها تريد من القارئ أن يساهم في صياغة الرواية.