في ظلال الدستور: الحضارة فريضة دينية
عطفاً على ما تناولته في مقالي الأحد الماضي من أن الأخلاق هي من مقومات الحضارة الإنسانية كان حرياً بي أن أتناول في مقال اليوم التعايش مع الآخر والانفتاح على الحضارات الأخرى من اعتبارهما من مقومات الحضارة الإنسانية أيضا.التعايش مع الآخر
يقول المولى عز وجل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّّ". فالتعارف والتواصل- لا التنافر- هو الغاية الإلهية التي تغياها سبحانه وتعالى من تقسيم الشعوب والقبائل والأمم ليتم تبادل الخبرات والمنافع وليس هناك من أساس لاستعلاء أمة على غيرها بعرقها أو لونها أو مالها، على أساس من أن الخالق واحد.وحدة الجنس البشريفوحدة الجنس البشري مستمدة من الإيمان بالله خالق الكون كله، يقول المولى عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ويقول الإمام الغزالي: "إن وحدة الجنس البشري هي نتاج قرابة مشتركة بين الخلق، وتؤكد الأبوة المادية المنتهية إلى آدم بأبوة روحية ترجع إلى تعاليم الأديان الملخصة في رسالة الإسلام"، وانطلاقا من هذا المعنى النبيل، برز مبدأ المساواة في الإسلام، والذي لخصه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه الشريف: "ألَا لا فضْلَ لعربيٍّ على عجَميٍّ، ألَا لا فضْلَ لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتقوى ...".وقد جسد الدستور الكويتي وحدة الجنس البشري فيما تنص عليه المادة (29) من الدستور من أنه "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس والأصل واللغة أو الدين".وفي تفسير المذكرة التفسيرية للدستور لنص المادة (29) سالفة الذكر تقرر المذكرة- وهي ملزمة شأن النص الدستوري- بأن نص هذه المادة على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بصفة عامة، ثم خصت بالذكر أهم تطبيقات هذا المبدأ بقولها "لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس والأصل واللغة أو الدين"، وقد آثرت هذه المادة ألا تضيف إلى ذلك عبارة "أو اللون أو الثروة"، برغم ورود مثل هذه العبارة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك لأن شبهة التفريق العنصري لا وجود لها في البلاد، فضلا عن كفاية نص المادة على دفع هذه الشبهة.وتستطرد المذكرة إلى القول: كما أن التفريق بين الناس بسبب الثروة أمر منتفٍ بذاته في المجتمع الكويتي، فلا حاجة للنص على نفيه بحكم خاص، أي أن المال لا يميز فرداً عن فرد أو أمة عن أمة، فالمال لا يصنع حضارة، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: "االْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، فالمال زينة الحياة الدنيا، وليس مقوماً من مقومات الحضارة. ولئن اعتبر النص القرآني "الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" فمؤدى هذا النص أن البنين يبقون زينة لدى ذويهم، إلى أن يبلغوا مبلغهم من العلم والنضج والمعرفة وتسهم جهودهم الخلاقة في سبر أغوار الكون في كل العلوم الإنسانية والتجريبية، ونضالهم في تحقيق أمجاد أمتهم في خدمة الخير والإنسانية، فيرسخون بذلك حضارة.الانفتاح على الحضارات الأخرىيقول الدكتور يوسف عامر رئيس لجنة الشؤون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ تحت عنوان "الحضارة فريضة إسلامية": "إن القرآن الكريم عزز الانفتاح الحضاري، والإفادة من مميزات الحضارات الأخرى وتجنب أخطائها من خلال القصص القرآني، وما كانت عليه الأمم السابقة من نهضة عمرانية وزراعية وعسكرية وغيرها"، ثم ذكر الأسباب التي أدت إلى هلاكها وفنائها من ذلك قوله تعالى: "وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ".ضد التعصبإن التعصب ورفض الآخر وعمليات الانغلاق التي يحرص مرتادو قنوات التنافر الاجتماعي على تثبيتها في نفوس الشباب بعمليات الشحن المتواصل ضد الآخر هي نوع من القمع لحرية الرأي والبحث العلمي وغيره من آفاق المعرفة، وما سيؤدي إليه هذا الانغلاق من تدمير أحلام التقدم والتنمية.إن حرية الرأي والبحث العلمي التي كفلها الدستور لكل إنسان في المادة (35) عندما أضافت هذه المادة: "ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما"، قد أصبحا مهددين أمام معاول التخريب والتدمير التي تمارسها قنوات التواصل الاجتماعي بغير علم أو معرفة وبغير بصر أو بصيرة وهما أحد المقاييس والمعايير العالمية في نهضة الأمم ورقيها وتقدمها، وهما أحد الأسلحة الصلبة والناعمة والذكية في الكويت لقهر التحديات التي تواجه الوطن العربي والتي أدت إلى انقسامه وتشرذمه، كما أدت إلى صراعات أو حروب أهلية.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.