أخبرنا الله تعالى أن نوحاً عليه السلام دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً حتى استغرق الجدال معهم 950 عاماً... وعندنا في الكويت جدال لا يكاد ينتهي حول نطاق الحريات في الدستور والقانون، وأعتقد شخصياً أن أكثر موضوع كتبت عنه في هذه الزاوية هو الالتزام بالمادة الثانية من الدستور وشرحها في المذكرة التفسيرية الملزمة، وكذلك قانون اللائحة الداخلية لمجلس الأمة التي رسمت حدوداً لحرية النائب في الكلام أحياناً من أجل منع الفوضى في المجلس فنصت على أنه لا يجوز الكلام إلا بإذن الرئيس، كما نصت على عدم مقاطعة المتحدث، وعلى عدم جواز استخدام عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات، كما نصت على ضوابط للسؤال والاستجواب، إلا أن مخالفة هذه النصوص الآمرة تتم بشكل مستمر في المجلس خصوصا في السنوات الأخيرة.

وكذلك فقد كتبت مراراً عن الفهم السليم لموضوع الحريات في وسائل الإعلام، فقد نص الدستور على أن حرية الرأي والصحافة والنشر مكفولة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، وهذا القانون الذي أشار إليه الدستور تم إصداره في المجالس السابقة مستمداً بنوده من القيم الوطنية والشريعة الإسلامية، وبالإضافة إلى ذلك فقد استشهدت في المقالات السابقة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي استفاضت في بيان خطورة آفات اللسان وجريمة التعدي على كرامات وحقوق الآخرين، ومع ذلك فهناك من يصر على الخروج على أحكام الشريعة والقانون باسم الحرية المفترى عليها خاصة في وسائل التواصل، بل يصر على إلغاء القوانين المستمدة من الشريعة التي حافظت على الحريات المستحقة، وفي الوقت نفسه حافظت على سلامة المجتمع وحقوق الآخرين والحوار والنقد البناء، ولا توجد حرية مطلقة في أي مكان في العالم، ولكن هذا الخلاف ما زال مستمراً ويغذى من أطراف متعددة تحاول الخروج بمفهوم الحريات عن أحكام الشريعة، ولكن سيكون هناك دائما من يعارضهم ويصر على إبقاء الحريات في إطار الشريعة مهما طال الزمان.

Ad

وقد أثبتت جلسة الأسبوع الماضي مدى تجاوز بعض الأعضاء وبعض جمهور المؤيدين لهذه الأصول الشرعية والقانونية حتى وصل الأمر للسباب داخل المجلس وخارجه، وانتقل الشجار إلى وسائل التواصل وبعض الدواوين بأساليب مختلفة وعنيفة وكأنهم يرفعون شعار "ذل من لا سفيه له"، وتوسع حتى لجأ بعض النواب والموظفين إلى القضاء، وثار جدل عريض في المجلس حول اللجوء إلى الحصانة في مواجهة القضايا المرفوعة بشأن المخالفات والسباب والشتائم التي تم استخدامها داخل المجلس وخارجه.

وليس الأمر مقتصراً على سوء الفهم السياسي للدستور واللائحة الداخلية داخل المجلس، فقد رأينا كيف تم تأويل موضوع الحرية للانحراف نحو ممارسات مخالفة للشريعة والقانون والقيم الاجتماعية، حيث تم استيراد ممارسات عقائدية غريبة منافية للإسلام والدستور إلى بلادنا تحت زعم حرية العقيدة، ولو تأمل دعاة هذه الحرية المزعومة مواد الدستور لاكتشفوا أنهم لم يخالفوا الشريعة فقط بل خالفوا الدستور أيضاً.

فقد نصت المادة ٣٥ من الدستور على: "حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقاً للعادات المرعية"، ثم أضافت المادة نفسها: "على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب".

أما المذكرة التفسيرية لهذه المادة فقد نصت على: "تقرر هذه المادة حرية الاعتقاد مطلقة لأنها ما دامت في نطاق الاعتقاد أي "السرائر" فأمرها إلى الله ولو كان الشخص لا يعتقد في دين ما، فإن جاوز الأمر نطاق السرائر وظهر في صورة (شعائر) وجب أن تكون هذه الشعائر طبعاً للعادات المرعية وبشرط ألا تخل بالنظام العام أو تنافي الآداب، والمقصود بلفظ الأديان في هذه المادة الأديان السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية، وليس معنى ذلك على سبيل الإلزام منع الأديان الأخرى من ممارسة شعائرها كلها أو بعضها، إنما يكون الأمر في شأنها متروكا لتقدير السلطة العامة في البلاد دون أن تتخذ لحريتها سنداً من المادة 35 المذكورة".

انتهى نص المذكرة التفسيرية للدستور ويستفاد منه ثلاثة أمور:

الأول: أن حرية الاعتقاد مطلقة مادامت في السرائر، أما إذا خرجت إلى شعائر معلنة فأمرها الى القانون والنظام والآداب العامة.

الثاني: المقصود بالأديان في المادة هي الإسلام والمسيحية واليهودية ويجب عليها أن تلتزم بالنظام والآداب العامة.

الثالث: أن منع الأديان الأخرى ليس ملزماً إنما يكون الأمر في شأنها متروكا لتقدير السلطات العامة وأنها ليست محمية بالمادة 35.

ومع ذلك ورغم وضوح النصوص الدستورية ومذكرتها التفسيرية يصر بعض المطالبين بالحريات المزعومة على جلب أديان وشعائر بوذية وهندوسية وطقوس يوغا وروحانية وغيرها وإعلان شعائرها دون الالتزام بالنص الدستوري.

وفي مثل هذا الموضوع أثير خلاف في مجلس 1996 حول الحفلات الغنائية العامة بين مؤيدي الحريات والمعترضين على ما قد يحصل فيها من الخروج على النظام والآداب العامة، فكان أن تعاون المجلس والحكومة وتم إصدار ضوابط لهذه الحفلات ونشرت في الجريدة الرسمية.

معظم أمم الأرض حسمت أمرها وأصبح مفهوم الحرية متفقاً مع قيمها وحضارتها، أما نحن فما زال هذا الجدال، رغم وضوح الشرع والدستور، يطرح ويجدد منذ سنوات ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً والمعارك مستمرة فتزيد الضغائن وتنشر الشقاق في المجتمع وتصرف المشرعين والشباب عن العمل المشترك من أجل إصلاح الاقتصاد والتعليم ومكافحة الفساد وغيرها من التحديات المهمة لمستقبل البلاد والأجيال، وقد تتطور لا سمح الله إلى الإخلال بالسلم الاجتماعي وقد تنشأ مفاسد ومعضلات على شاكلة أخرى.

وكما قال الشاعر محذراً:

أرى تحت الرماد وميض جمر

ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تُذكى

وإن الحرب مبدؤها كلام.

● أحمد باقر