الفساد الريعي فساد عظيم يلازم النظام الاقتصادي الريعي إذا كان منفلتاً عن قيود الرقابة والمحاسبة المجتمعية على إنفاق المال العام، كما يلازمه طغيان السلطة السياسية على كل المناشط الاقتصادية والسياسية المجتمعية لحد الاستغناء التام عن دور المواطن الإنتاجي والسياسي، والطغيان مرتبط بالاستعلاء والاستغناء وهما طبيعة في الدول كما الإنسان كما في قوله تعالى "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى".

هذا اللون من الفساد يبدأ بالنخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تقود المجتمع وتصوغ ذهنيته وضميره الجمعي وتوجه مسلكياته، يبدأ هذا الفساد بالنخبة ثم يتسرب إلى القاعدة المجتمعية، وأخشى أن يكون مصير هذه المجتمعات هو ما حذر منه المولى في محكم كتابه " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً".

Ad

دعونا نتساءل: لماذا هذه العاقبة المأساوية لهذه المجتمعات التي تنغمس في الفساد؟

أولاً: لأن هذا الفساد الذي تسرب من القمة إلى القاعدة المجتمعية، يصبح فساداً متجذراً ومشرعناً ومقبولاً من الجميع حكومة وأفراداً وحينئذ يصعب مكافحته وعلاجه، فالشفاء يكون صعباً حين يكون الطبيب هو المعلول، على حد تعبير الكاتب الكويتي عبداللطيف الدعيج.

ثانياً: لأن هذا المجتمع يفتقد حيوية التغيير، وطاقة الجهد والإبداع والابتكار والاكتشاف والمخاطرة، وهي العناصر الحيوية الأساسية لأي مجتمع بشري طبيعي، ينعم بالنشاط البشري المولد للثروة، والقادر على تحصين أفراده ورفع مناعتهم في مواجهة تأثير قوى الفساد، وذلك عبر الرقابة الفاعلة، فدولة لا تحتاج إلى جهود مواطنيها لتوليد الثروة، وهي قادرة على تقديم كل خدمات الرعاية الاجتماعية، ومواطنون سعداء بالذين يحصلون عليه دون عناء ولا بذل جهد، ماحاجتهم للتغيير؟ وما الذي يدفعهم للتحول الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل والتصدير؟! (الدولة الريعية والانتقال إلى الديموقراطية، الكاتب البحريني علي فخرو)

ما مرجع تلازم هذا الفساد والنظام الريعي؟

أولاً: عدم فصل بيت المال العام عن المال الخاص للحاكم على امتداد 14 قرنا في عمر دولة الخلافة إلا في استثناءات قليلة في عهد الخلفاء الراشدين والخليفة عمر بن عبدالعزيز رضوان الله عليهم، فقد كان الحاكم يرى نفسه الوكيل المتصرف في بيت المال العام بلا حسيب ولا رقيب، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ولا يزال الوضع كذلك في معظم النظم الريعية، رغم إصدار الدساتير وتقنين التشريعات المنظمة لأوجه إنفاق المال العام.

ثانياً: السماح باتجار الوالي في الرعية، وشرعنة تزاوج السلطة بعالم المال، خصوصا في دول الفائض الريعي الوراثي منها 6 خليجية، والجمهوري 4 عربية. إن انغماس رجال المسؤولية والسلطة بالتجارة والاستثمارات هو أس الفساد الريعي لأنه يشرعن وضعاً لا يخضع لمدركات منظمة الشفافية العالمية ولا مؤشرات البنك الدولي للفساد ولا تقرير النزاهة العالمية، كما أن هذه المنافسة غير العادلة تخل بعدالة المنافسة التجارية والتي هي أس التجارة في العالم الحر. لقد تم تهميش دور القطاع الخاص حتى أصبح قطاعاً ضعيفاً متسولاً وتابعاً للسلطة.

ثالثاً: طغيان السلطة الحاكمة وابتلاعها المجتمع المدني بحيث تم إضعافه وشل دوره الرقابي والمحاسبي، إضافة إلى هيمنتها على السلطات الأخرى: التشريعية والقضائية والإعلامية لدرجة تقييد دورها في مكافحة الفساد.

لقد كان المجتمع الخليجي، في عصر ما قبل النفط، وبخاصة التجار، مصدراً لدخل االدولة (الرسوم الجمركية، وضريبة سفن صيد اللؤلؤ، والإيجارات، والإيرادات الأخرى) وكان لهم دورهم السياسي المقدر من الحكام وفق عقد اجتماعي غير مكتوب، وبظهور النفط وتضخم إيرادته اختل العقد، فاستغنت الدولة عن المجتمع، واحتاج المجتمع إلى الدولة بل أصبح التجار يتسولون رزقهم (المقاولات والفيز وتأجير العقارات والخدمات الحكومية الأخرى) من الدولة، إن بسطت يدها فرح الناس وحمدوا وشكروا، وإن قبضت صاحوا وجأروا بالشكوى (ما بعد النفط، الكاتب البحريني ميرزا حسن القصاب) يتبع.

* كاتب قطري

● د. عبدالحميد الأنصاري