في الصميم: وكأنها وُجِدت لتُنهب!
هناك تقرير منسوب الى مركز كارنيغي للشرق الأوسط يصف الحالة الكويتية الراهنة بأنها مخيفة، التقرير مهما كانت صحة مصدره أصاب كبد الحقيقة، بل أقل منها بكثير، فهو يحذر بالتفصيل من واقع يدمي قلب كل وطني، وكل محب للكويت، إنه تقرير لن يُصلح ما ذكر فيه لا مجالس أمة ملوّثة بكثير من القبيضة والنوائب، ولا حكومات متعاقبة عالمة وساكتة عما حصل ويحصل للكويت من نهب ودمار ممنهج واضح ومعلوم للجميع.التقرير مهم جداً، لكنه أتى متحفظاً في تفاصيله ومتأخراً في توقيته، لأنه ذكر بأن ما يحدث من فساد في الكويت بدأ من عدة أشهر، والصحيح أنه بدأ وتأصل منذ سنوات طويلة، ولم يتكشف منه حتى الآن إلا رأس جبل جليد واحد.ملخص التقرير وبعد تصرف فيه، يذكر أن الفساد أصبح ركيزة من ركائز العمل، وسمة من سمات الحياة اليومية في الكويت، وأن الفساد وصل إلى مرتبة الغزو الداخلي، مما يهدد القدرة على العمل، ووصل إلى أبعاد لا مثيل لها، فهو ليس اختلاساً وغسلاً للأموال فقط، بل هو نظام خماسي يستفيد منه الكل مما يزيد صعوبة اقتلاعه، فإذا كانت الدولة والمجتمع فعلاً صادقين في مكافحة الفساد، فيجب عليهما أولا محاربة هذا النظام الخماسي بالكامل، بدءاً من أعلى السلم، وإلا فإنه سيتفاقم.
أول أمر في هذا النظام هو تفشي الواسطة والرشوة، فالواسطة منتشرة في النظام لدرجة أن صندوق النقد الدولي ذكر في تقريره أن الواسطة أصبحت شرطاً أساسياً للحصول على وظيفة، وبخاصة في قطاع النفط الحيوي، أما الرشا فانتشرت في كل شيء، وفي كل مكان، حتى أصبحت ظاهرة، وحتى باتت هي حجر الزاوية لتمرير المعاملات حتى العادية منها، أو لكسب وتبادل المنافع باستخدام العلاقات والنفوذ، والمساءلات النيابية بسبب وحتى بدون سبب، فتأتي الرشا على شكل عيني أو نقدي، أما الرشا الرسمية المعتبرة فهي في أغلبها تكون على صورة جواخير وشاليهات وأراض زراعية، ومناقصات، ومحسوبيات، وخدمات لا مبرر لها، وتقييمات متضخمة للتكاليف، وقوانين تم الالتفاف والتحايل عليها، مما نتج عنها سلوك مُعدٍ من الإهمال الجسيم وعدم الكفاءة.وثانيه تمثل في تفشي الاحتيال، فهناك احتيال في تزوير لمئات الآلاف من الجناسي مما شكل عبئاً مالياً سنويا استهلك نحو ثلث ميزانية البلد، واحتيال في الشهادات المزورة حصل عليها بعض المسؤولين والأكاديميين والموظفين، واحتيال في تقديم ميزانيات محرّفة لشركات حكومية لإخفاء تجاوزات مالية، واحتيال آلاف الكويتيين بتزييف وضعهم الوظيفي في القطاع الخاص لتلقي دعم العمالة، واحتيال بادعاء المرض المكلف، فقد هدر من المال العام في سنة واحدة ثلاثة مليارات دولار ونصف من أجل علاج سياحي صرف، واحتيال عشرات الآلاف بدعوى الإعاقة كلفت الدولة مئات أخرى من الملايين، فلم يترك المحتالون وجهاً للاحتيال إلا طرقوه، أما الحكومة والمجلس فهما إما نائمان أو مشاركان فيه.وثالثه تمثل في الاتجار بالبشر، أو تجّار الإقامات، بقبض شخصيات متنفذة إتاوات طائلة من العمال الأجانب، مما أدى إلى الإخلال بالتركيبة السكانية، وتشويه سمعة الكويت الإنسانية.ورابعه تحوّل الكويت إلى مركز دولي لغسل الأموال، وهي حقيقة كشفتها وسائل الإعلام العالمية، كقضية النائب البنغالي. أما خامسه، فهو اهتزاز النزاهة المالية للكويت والإضرار بها بسبب اختلاسات وعمولات في عدد كبير من المؤسسات المهمة مثل التأمينات الاجتماعية، وصندوق الجيش، ومشتريات الدفاع، وأموال ضيافة وزارة الداخلية، والخطوط الجوية، والرياضة، والنفط، وغيرها الكثير، فالضر مس حتى الجمعيات التعاونية والأندية والجمعيات الأهلية والخيرية، وهي كلها منتخبة، فما فائدة انتخابات مخرجاتها فاسدة.كل ما ذكر تم تحت سمع وبصر الحكومات ومجالس الأمة واثنتي عشرة هيئة كان واجبها ومهمتها مكافحة ومحاربة الفساد، مما جعلها وكأنها إحدى دلائل سوء الإدارة في البلاد، هذا الوضع العقيم والسيئ جعل الكويت تتراجع وتنحدر في ترتيب مؤشرات الفساد عاما بعد عام.فلا بد من التأكيد هنا بأن لا أحد يستطيع أن يتنصل أو يدعّي أنه لا يعلم بتفشي الفساد، فالأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد قال في سنة 2004، عندما كان رئيسا للوزراء، بأن "فساد البلدية ما تشيله البعارين"، وطبعا الفساد ليس في البلدية وحدها، ولكنه منتشر كالسرطان في كل ربوع الدولة، ومع ذلك لم يقم أحد بمحاربته، أو حتى الحد منه.التقرير ختم بنصيحة لا نعلم ما إذا كان هناك من يريد أن يستمع إليها، ومن ثم الأخذ بتنفيذها، وهي أن تركز الحكومة جهودها على الاستعانة بأشخاص لهم الاحترام، والنزاهة، والعلم والخبرة، ولديهم السلطة الكاملة لمكافحة الفساد من أعلى السلم، فهذا التقرير يوحي وكأن الكويت وجدت لِتُنهَب!