دخلت فرنسا على خط الأزمة الأوكرانية-الروسية من خلال جهود الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) لتفادي أزمة بين دولتين أوروبيتين متجاورتين، وسعيا لضمان الاستقرار في القارة الأوروبية، وتجنبا لوقوع أي نزاع عسكري يمكن أن يعيد إلى الأذهان ويلات الحرب العالمية الثانية ومآسيها.لقد بدأت مساعي الرئيس الفرنسي باتصالات هاتفية تمت بينه وبين الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)، من طرف، والرئيس الأوكراني (فولوديمير) من طرف آخر في أواخر الشهر الفائت، وها هو يتجه هذا الأسبوع لزيارة العاصمة الروسية (موسكو)، تتبعها زيارة للعاصمة الأوكرانية (كييف)، وسيكون من المبكر أن نرى نتائج هاتين الزيارتين أو نتكهن بما ستسفر عنهما من مواقف أو قرارات في الوقت الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا الدور المهم والأساسي الذي تؤديه الإدارة الأميركية في تعاطيها سياسيا وحتى عسكريا مع هذه القضية الأوروبية الحساسة.
لكن من اللافت للنظر غياب مبادرات ملموسة للمنظمات الأوروبية-الأطلسية من ناحية، ولدول أوروبية أخرى معنية بهذه القضية، ولنا أن نتساءل: أين جهود الاتحاد الأوروبي كمنظمة أوروبية تسعى إلى إثبات وجودها على الساحة الدولية من خلال سياستها الخارجية؟ وأين مساعي منظمة حلف شمال الأطلسي والمعروفة عموما بتعبير (الناتو)، لإيجاد مخرج لأزمة هي شريكة فيها، كون جمهورية أوكرانيا مرشحة للانضمام إلى هذه المنظمة الأطلسية، ولعلها من الأسباب الرئيسة لهذه الأزمة السياسية التي تعيشها أوروبا بشكل مباشر، بالإضافة لأسباب اقتصادية وحيوية خاصة بتعليق توريد الغاز الروسي لبعض البلدان الأوروبية في حال نشوب نزاع مسلح.لكن أردت أن أركّز في هذه المقالة على نقاط يمكن أن تكون غائبة عن أذهان القراء الكرام: أولها المواقف التاريخية للجمهورية الفرنسية وتعاملها وسياستها إزاء منظمة حلف شمال الأطلسي.لقد كانت فرنسا من الدول المؤسسة لهذه المنظمة الأطلسية التي تم التوقيع على ميثاقها في (واشنطن)، بتاريخ 4/ 4/ 1949، وجاء قرار الرئيس الفرنسي السابق، والذي أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958، ونقصد به الجنرال (شارل ديغول)، بالانسحاب فرنسا وبتاريخ 10/ 3/ 1966، من الهيئات العسكرية لهذه المنظمة، ولكن مع البقاء في هيئاتها الأخرى، وقد سمح هذا الانسحاب لفرنسا، من جهة، بأن تضع برنامجها النووي المستقل عن الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا، وجعل منها قوة نووية معروفة، واستتبع، من جهة ثانية، انسحاب القوات الأميركية، بتاريخ 1/ 1/ 1967 من الأراضي الفرنسية التي كانت ترابط عليها منذ تحرير فرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية، كما نتج عن هذا القرار الديغولي نقل مقر منظمة حلف شمال الأطلسي من (باريس) إلى (بروكسل)، وقد شكل هذا القرار الفرنسي وقتها امتداداً للإرث الديغولي، ورغبة في عدم الرضوخ مباشرة للهيمنة الأميركية، وطموحا بأن يكون لأوروبا، بمحورها الفرنسي-الألماني، موقفها المستقل، وقد استمرت هذه السياسة طوال عهود الرؤساء الفرنسيين بعد الجنرال ديغول، إلى أن تبدلت مع الرئيس الفرنسي السابق (نيكولا ساركوزي) الذي قرر العودة إلى القيادة العسكرية للمنظمة، مما شكل وقتها تطورا جديدا للسياسة الخارجية الفرنسية وتبدلا في المواقف والتحالفات التي كانت متبعة في عهود الرؤساء الفرنسيين السابقين، وآخر المستجدات الفرنسية فيما يتعلق بمنظمة حلف شمال الأطلسي، كانت مع تصريحات الرئيس الفرنسي الحالي الذي قال في مقابلة مع مجلة (ذي إيكونوميست) البريطانية، أواخر عام 2019، بأن هذه المنظمة في حالة (موت سريري)، فإذا كان هذا هو رأي الرئيس الفرنسي في المنظمة فليس غريبا أن يقوم بمبادرات فرنسية فريدة وألا يتعاون فيها بشكل مباشر مع هذه المنظمة.لكن الغريب هو القيام بمبادرات فرنسية من دون التعاون مع الاتحاد الأوروبي، وهذه هي النقطة الثانية التي أردت أن أشير إليها، فعوضا عن التعاون مع الحليف الاستراتيجي الأوروبي وأقصد به هنا الجمهورية الاتحادية الألمانية، نتابع سفر الرئيس الفرنسي بمفرده إلى روسيا الاتحادية وأوكرانيا، في حين أن المستشار الألماني الجديد (أولاف شولتز) يقطع الأطلسي متجها في أول زيارة رسمية له للولايات المتحدة الأميركية، فأين التنسيق بين الحليفين الاستراتيجيين الأوروبيين ألمانيا وفرنسا؟ وأين دور مفوض السياسة الخارجية الأوروبية؟ وماذا عن جهود المفوضية الأوروبية وعلى رأسها الألمانية (أورسولا غيرترود فون دير لاين)؟ وأين مبادرات رئيس المجلس الأوروبي البلجيكي (شارل ميشيل)؟ صحيح أنه لا روسيا الاتحادية ولا أوكرانيا أعضاء في الاتحاد الأوروبي ولكن خمس دول أعضاء في هذا الاتحاد هي دول مجاورة لهاتين الدولتين ونقصد بها: بولونيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وفنلندا، وهنغاريا. وهو ما يستدعي برأينا بذل جهود الاتحاد الأوروبي لإيجاد مخرج لهذه الأزمة أو التعاون بشكل مباشر مع فرنسا مثلا في هذا المجال.ونقطة أخيرة أردت أن أشير إليها، وهي تاريخية بامتياز وتتعلق بتاريخ فرنسا في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية، ولعلنا نجد فيها تفسيرا للمساعي الدبلوماسية الحالية للرئيس الفرنسي، أردت أن أحيل في هذه النقطة إلى كتاب أعتقد أن الكثير لم يسمع عنه سابقا، وكنت ممن يجهل وجوده إلى أن قرأت عنه في كتاب الأكاديمي الفرنسي-اللبناني أمين معلوف، والذي ذكره في كتاب مشوق له، وهو حال كل كتبه، بعنوان: (كرسي على السين، أربعة عقود من تاريخ فرنسا)، والصادر بحجم صغير عام 2016، ويقصد بالطبع (نهر السين) الذي يخترق العاصمة الفرنسية (باريس)، والذي يروي فيه تاريخ أوائل أعضاء الأكاديمية الفرنسية (الذي هو عضو فيها منذ عام 2011)، والتي تم تأسيسها عام 1634، وأصبحت مؤسسة رسمية عام 1635 بفضل (الكردينال راشيليو) الوزير الرئيسي، أو لنقل رئيس وزراء الملك الفرنسي لويس الثالث عشر، ويقابل الأكاديمية الفرنسية ما يُعرف في بلداننا العربية بمجامع اللغة العربية، وكان أولها المجمع العلمي العربي الذي أُسس في (دمشق) عام 1919.يروي أمين معلوف بأسلوبه الأدبي الجذاب قصة الفرنسي الذي تم انتخابه عام 1688 عضوا في الأكاديمية الفرنسية، وعُرف بلقب (مفاوض الملوك) ونقصد به (فرانسوا ديكاليريس)، ويشير معلوف إلى أحد أهم كتبه وهو بعنوان: (كيفية التفاوض مع الحكام)، ويقصد بالطبع الأمراء والملوك في زمنه، وتم التركز فيه على الجوانب الدبلوماسية والتفاوضية في العلاقات بين الممالك الأوروبية في القرن السابع عشر، ويلفت الأكاديمي معلوف النظر إلى اهتمام سياسيين قديما بهذا الكتاب فنجد من بينهم (توماس جيفرسون)، أحد المحررين الرئيسيين لإعلان الاستقلال الأميركي لعام 1776، وثالث رئيس للولايات المتحدة الأميركية، وحظي الكتاب أيضا، في القرن الفائت، باهتمام عدد من السياسيين والموظفين والمفكرين البريطانيين والأميركيين، وتمت ترجمته للغة الإنكليزية حسب الأمثلة التي قدمها الروائي معلوف في كتابه المذكور.لا شك في وجود أزمة حالية متعددة الجوانب السياسية والاقتصادية في القارة الأوروبية، كما يوجد بعض التقاعس في مواقف عدد من المنظمات الأوروبية سعيا لإيجاد حل لها، وتأتي المساعي الفرنسية الحالية لتبرز بعض الملامح المتأصلة في السياسة الخارجية الفرنسية والمتمثلة في بعض جوانبها بالاعتماد على المفاوضات والدبلوماسية لحل النزاعات وإيجاد حل للخلافات، فهل ستنجح يا ترى المساعي الحثيثة للرئيس الفرنسي الحالي بإيجاد مخرج للأزمة التي تعيشها هذه الأيام بعض بلدان القارة الأوروبية؟* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.
مقالات
مساع فرنسية لتفادي أزمة أوروبية
10-02-2022