يضع حكم محكمة التمييز الصادر أخيراً بشأن سحب 396 قسيمة زراعية في منطقة الوفرة ضمن مشروع الأمن الغذائي في عام 2014 المؤسسات الحكومية، وأبرزها الهيئة العامة لشؤون الزراعة والثروة السمكية، أمام مسؤوليات متعددة، يتصدرها الاختيار بين العمل الجاد لاستعادة هيبة الدولة من خلال إصلاح نظام حيازات الأراضي المملوكة للدولة ومنحها للمستحقين وفق الأغراض التي توزع من أجلها، أو القبول بالفوضى الحالية التي تحولت فيها القسائم الزراعية إلى بيئة تنفيع أو حتى شراء ولاءات السياسيين والقياديين من خلال "تكييش" هذه القسائم بدلاً من الإيداع النقدي.

وبقدر ما كان حكم "التمييز" صادماً فإن فيه من الدروس ما يوجب على المؤسسات الحكومية الاستفادة منها، وتحويل الخطاب الرسمي لمجلس الوزراء إلى مرحلة الفعل لا مجرد التصريح، أبسطها ضرورة محاسبة المتجاوزين الذين تسببوا في منح الحيازات الزراعية لغير المستحقين، منها شركات لا علاقة لها بالأمن الغذائي كشركات الملابس والسيارات والأحذية والعطور وغيرها، فضلاً عن حصول بعض الشركات على أكثر من قسيمة بنفس القرعة، علاوة على أن هيئة الزراعة أصدرت عام 2014، بعد اعتراض عدد من المشاركين في القرعة على نتائجها، بياناً شددت فيه على شفافية الإجراءات وسلامة التوزيع، مما كان له بالغ الضرر على الدولة في حرمانها من العمل على التقدم في مجال الأمن الغذائي، وعلى المستحقين في استبعادهم من الاستثمار بهذا القطاع.

Ad

بلاغ وشفافية

ورغم أن إعلان وزير الأشغال، المشرف على أعمال هيئة الزراعة، إحالة مجموعة من قيادييها إلى النيابة العامة يبدو إيجابياً، فإن هذه الإحالة بحد ذاتها تحتاج إلى مزيد من الشفافية، عبر نشر بلاغها، خصوصاً أن هناك العديد من السوابق في مؤسسات الدولة التي تمت إحالتها إلى النيابة العامة، وكانت بعيدة عن تضمين الوقائع، مما أدى إلى حفظ البلاغات، فضلاً عن عدم اقتصار إصلاح المخالفات في هيئة الزراعة على البعد القضائي، بل أيضاً في التشديد على تجاوز مرحلة الانفلات الإداري إلى تطبيق معايير الإدارة الرشيدة، كالحوكمة والشفافية وعدم تعارض المصالح، فضلاً عن معالجة الملاحظات والمخالفات المرصودة من ديوان المحاسبة... وهذه متطلبات تحتاج إلى نفضة لا يمكن أن تتبناها إلا جهة على مستوى مجلس الوزراء.

معالجة الآثار

كذلك يجب على هيئة الزراعة العمل على معالجة الآثار المترتبة على حكم "التمييز" لئلا تضطر الدولة إلى دفع تعويضات مالية، لاسيما أن القسائم التي وزعت قبل نحو 8 سنوات ثمة من تصرف فيها بالبيع أو بالتطوير أو الاستثمار فيها، بالتالي فإن الخطأ الإداري الجسيم الذي وقعت فيه الهيئة قد يفضي إلى تحمّل الدولة تعويضات بملايين الدنانير، وهو أمر لم يكن ليتحول إلى هاجس لو تعاملت "الزراعة" مع هذا الملف، عند بدء إثارته عام 2014، بمسؤولية وشفافية تُجنّبان الدولة مخاطر التعويض.

لكن الأهم على الإطلاق في الاستفادة من دروس حكم "التمييز" هو وضعه كنقطة انطلاق لمعالجة ملف الأمن الغذائي في الكويت، خصوصاً باعتباره أحد الدروس التي قدمتها لنا أزمة "كورونا"، لاسيما مع نسبة الاستيراد القياسية للأغذية في الكويت، التي تصل إلى 90 في المئة من إجمالي الاستهلاك المحلي بالتوازي مع مخاطر تعثر سلاسل الإمداد أو التشدد في السياسات الحمائية عند ظهور أي تطور أو تحوّر في الجائحة.

حيازات وإنتاج

وبنظرة على واقع الإنتاج الزراعي في الكويت، من حيث مقارنة الاستثمار بالعائد الإنتاجي، نجد أن الرقعة النباتية المخصصة للزراعة في الكويت زادت خلال السنوات العشر الماضية بـ 22 في المئة من إجمالي المساحة الكلية المسجلة بنحو 120 مليون متر مربع، في حين أن نسبة الاكتفاء الذاتي من الخضراوات الطازجة، حسب آخر بيان على موقع الإدارة المركزية للإحصاء، تراجعت من 46 في المئة لعام 2015 إلى 42 في المئة لعام 2019، كذلك تراجع الاكتفاء الذاتي من الأعلاف الخضراء من 90 في المئة لعام 2015 إلى 46 في المئة لعام 2019، كما تشير بيانات الاتحاد الكويتي للمزارعين إلى أن عدد المزارع في الكويت يتجاوز 5 آلاف مزرعة، لكن عدد المزارع المنتجة فعلياً للسوق المحلي يبلغ 140 مزرعة فقط.

كما امتد التراجع في نسب الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء من 24 في المئة لعام 2015 إلى 21 في المئة لعام 2019 رغم زيادة حجم حيازات الإنتاج الحيواني "الجواخير" بـ 40 في المئة خلال 10 سنوات ماضية.

تدخل سياسي

لا شك أن حكم "التمييز" بشأن الحيازات الزراعية ألقى الضوء على الواقع المختل في "الزراعة" واتخاذها أداة للتنفيع دون اعتبار للأغراض التي خصصت من أجلها الأراضي أو المخاطر التي تكتنف التوزيع غير العادل على حساب المستحقين، فضلاً عن التهاون في مسائل الاكتفاء الذاتي لا شك تتطلب تدخلاً سياسياً من مجلس الوزراء للحد من تحول أراضي الدولة والأمن الغذائي فيها إلى أداة للتنفيع والتحايل على مقاصد إنشاء الهيئة الأصيلة.

محمد البغلي