في 17 يناير الماضي، أرسل المتمردون الحوثيون في اليمن مجموعة من الطائرات المسيّرة والمسلّحة في رحلة على بُعد ألف ميل تقريباً، حيث انطلقت تلك الطائرات إلى جانب صواريخ بالستية كجزءٍ من هجوم منسّق، فحلّقت نحو الإمارات العربية المتحدة التي تشكّل جزءاً من تحالف يقوده السعوديون لمحاربة الحوثيين. بعد مرور الطائرات المسيّرة في سماء أبو ظبي، بدأ عدد منها يطلق النار باتجاه مطار المدينة، واستهدفت طائرات أخرى مجموعة من شاحنات النفط في مستودع وقود مملوك للدولة، مما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ستة آخرين.
كان ذلك الهجوم أحدث مؤشر على القوة المدمّرة للطائرات المسيّرة التي أصبحت من الأسلحة المفضلة للجيوش والميليشيات والإرهابيين، لكن الضربة التي استهدفت أبو ظبي حملت مؤشراً من نوع آخر: لا ينحصر تهديد الطائرات المسيّرة في مناطق الصراع البعيدة، بل إن هذه الطائرات قد تُهدد سلامة المقيمين في مدن متطورة وآمنة ظاهرياً. توسّع الاستعمال المدني للطائرات المسيّرة بشكلٍ ملحوظ في الولايات المتحدة، لكن تبدو تداعيات عبور الآلاف منها في المجال الجوي الأميركي مقلقة. بعدما أصبحت المركبات المسيّرة متاحة على نطاق واسع وتراجعت كلفتها وزادت سهولة تعديلها، توشك تهديداتها على بلوغ الولايات المتحدة.يحمل هذا التهديد جوانب متعددة ومُحبِطة، فقد استُعمِلت الطائرات المسيّرة خلال الاعتداءات الإرهابية، ومحاولات الاغتيال، والضربات التي تستهدف أهم البنى التحتية، وعلى غرار الهجمات السيبرانية، يصعب تحديد الجهات المسؤولة عن تلك الاعتداءات، وفي ظل توسّع نطاق استعمال الطائرات المسيّرة وزيادة دقتها، أصبحت هذه الأداة نظاماً لتسليم الأسلحة.لكن لم تُعطِ الحكومة الأميركية أهمية كبرى للتهديد الأمني الوشيك الذي تطرحه الطائرات المسيّرة، بل فضّلت تكليف إدارة الطيران الفدرالية وحكومات الولايات باتخاذ القرارات المرتبطة بهذا الملف، مما أدى إلى إقرار مجموعة تنظيمات وإهمال تشديد التدابير الأمنية في تصميم التكنولوجيا الأساسي، لكن نظراً إلى خطورة تهديدات الطائرات المسيّرة وتعقيداتها، لا تستطيع واشنطن أن تنتظر طويلاً قبل التحرك.مع مرور الوقت، أصبحت الطائرات المسيّرة أسلحة أساسية في الترسانة العسكرية المعاصرة، إذ كانت الولايات المتحدة من أبرز مستخدميها، فاتكلت عليها في حربها على الإرهاب، لكن يبلغ عدد البلدان التي تستعمل برامج ناشطة من الطائرات العسكرية المسيّرة 102 اليوم، بعضها دول حليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا التي نفذت 398 ضربة بطائرات مسيّرة في العراق وسورية بين العامين 2014 و2019، وفي غضون ذلك، بدأت دول أخرى تظهر على الساحة حديثاً، منها أذربيجان التي استعملت طائرات مسيّرة تركية الصنع لترجيح كفة الميزان لصالحها خلال حربها مع أرمينيا في عام 2020.في المقابل، زادت شعبية الطائرات المسيّرة وسط المدنيين أيضاً، فوفق تقديرات إدارة الطيران الفدرالية، تسجّلت 1.4 مليون طائرة مسيّرة ترفيهية وحوالى 500 ألف طائرة تجارية في عام 2020 داخل الولايات المتحدة، وبحسب استطلاع شارك فيه الأميركيون في عام 2020، اعترف %8 من المشاركين بأنهم يملكون طائرة مسيّرة، وذكر %15 منهم أنهم أطلقوا طائرة من هذا النوع، وفي الولايات المتحدة اليوم، يستطيع أي شخص بعد عمر الثالثة عشرة أن يشتري طائرة مسيّرة ويسجّلها، حيث تتعدد استعمالات هذه الطائرات، فهي لا تكتفي بالتقاط صور وفيديوهات عالية الجودة، بل إنها تستطيع أيضاً أن ترسم خرائط الأراضي، وتراقب المحاصيل، وتتوقع أحوال الطقس، وتشارك في عمليات البحث والإنقاذ، وفي شبه جزيرة "كيب كود"، يطلق رواد الشواطئ هذا النوع من الطائرات لرصد أسماك القرش البيضاء الكبيرة، وتُقدّر مجموعة بحثية متخصصة بتقييم الأسواق قيمة سوق الطائرات المسيّرة العالمية بنحو ثلاثين مليار دولار.لكن قد يكون أثر الطائرات المسيّرة في قطاعات الشحن والتسليم والنقل الأكبر على الإطلاق، ففي محاولة لتقصير أوقات التسليم وزيادة التغطية الجغرافية وتوفير الأموال، قامت شركات "أمازون" و"غوغل" و"أوبر" باستثمارات ضخمة في قطاع الطائرات المسيّرة لتسليم الطلبات، وتتوقع إحدى الشركات البحثية تكليف نحو مليون طائرة مسيّرة بعمليات التسليم التجارية حول العالم بحلول عام 2026.تُذكّرنا التحديات التي تطرحها الطائرات المسيّرة اليوم بالتهديدات الإرهابية التي سبقت هجوم 11 سيتمبر، ولا تزال هذه الطائرات حديثة العهد من حيث نطاق انتشارها وتطوّرها التكنولوجي، ويمكن التعامل مع مخاطرها قبل خروج الوضع عن السيطرة، لكن إذا قررت واشنطن الانتظار لفترة أطول، قد تتجاوز تكاليف إقرار التدابير الأمنية والقواعد المناسبة كلفة أي تحركات راهنة بأشواط، كذلك، يجازف أي تأخير بتسهيل سيطرة الأطراف التي تستطيع تحقيق أكبر المنافع من انتشار الطائرات المسيّرة (لا سيما الشركات التي تُصنّع تلك الطائرات أو تنوي استعمالها) على عملية تحديد القواعد المرتبطة بهذا القطاع. للتعامل مع تهديدات الطائرات المسيّرة، يجب أن تبدأ إدارة بايدن بإصدار أمر تنفيذي لإنشاء مجموعة رفيعة المستوى ومشتركة بين الوكالات لتصنيف المخاطر الأمنية التي تطرحها الطائرات المسيّرة وابتكار التوصيات اللازمة لتقليص التهديدات، أو يستطيع الرئيس الأميركي إنشاء لجنة مشتركة بين القطاعَين العام والخاص، على أن تتألف من مسؤولين حكوميين وقادة القطاع الصناعي، وفي مطلق الأحوال، تهدف هذه الجهود كلها إلى التصدي للضرورات التجارية والاقتصادية المشروعة للطائرات المسيّرة عبر التركيز على جانبها الأمني.يُفترض أن يشمل أي حل محتمل زيادة التنسيق بين القطاعَين العام والخاص، فيتعاون المنظمون مع مصنّعي الطائرات المسيّرة لفرض تدابير أمنية خاصة بمرحلة التصنيع وتشديد مراقبة مشغّلي تلك الطائرات، وقد أحرزت الحكومة الأميركية تقدماً ملحوظاً في هذا الاتجاه خلال السنوات القليلة الماضية، ففي عام 2015، فرضت إدارة الطيران الفدرالية تسجيل جميع الطائرات المسيّرة التي تُستعمل لأغراض ترفيهية، ويجب أن تحمل هذه الطائرات اليوم "بطاقة تعريف عن بُعد" لتحديد هوية الطائرة وموقعها وسرعتها وعلوها، وبعد مرور ثلاث سنوات، مرّر الكونغرس الأميركي قانوناً يمنح وزارة الأمن الداخلي ووزارة العدل صلاحيات جديدة لتحديد الطائرات المسيّرة التي تطرح تهديدات معينة وتعقبها، أو حتى إسقاطها عند الحاجة.اقترح السيناتور الديموقراطي عن ولاية نيويورك، تشاك شومير، ومسؤولون آخرون تعديلاً مهماً يقضي بدسّ تقنية "السياج الجغرافي" (Geofencing) في كل طائرة مسيّرة (ترسم هذه التقنية حدوداً افتراضية تعجز الطائرات عن تجاوزها)، فضلاً عن فرض عقوبات على الجهات التي تعطّل هذه الخاصية. قد يرتكز هذا النظام على قاعدة بيانات حكومية تشمل إحداثيات المناطق الحساسة، بدءاً من المطارات وصولاً إلى محطات توليد الكهرباء. أصبحت تقنية "السياج الجغرافي" متاحة اليوم، وهي مدسوسة في عدد كبير من نماذج الطائرات المسيّرة، لكنها ليست إلزامية ويستطيع المستخدمون تعطيلها.لحماية البنى التحتية الأساسية، يجب أن تبني الحكومة الأميركية ما سمّاه المحلل زاك كالينبورن "شبكة وطنية لمكافحة الطائرات المسيّرة"، فبرأي كالينبورن، قد تشمل هذه الشبكة نظاماً من القواعد في مواقع أساسية ومتنوعة في جميع أنحاء البلد، ويجب أن تكون كل قاعدة مزوّدة بدفاعات فيها طائرات مسيّرة عن بُعد وقادرة على إسقاط طائرات مسيّرة أخرى، ولن تكون هذه الشبكة قليلة الكلفة، لكن تبقى كلفتها ضئيلة مقارنةً بتداعيات أي هجوم ناجح.على صعيد آخر، يجب أن يعيد صانعو السياسة النظر بالجهات المسؤولة عن تنظيم عمليات الطائرات المسيّرة. اليوم، تُعتبر إدارة الطيران الفدرالية أبرز جهة تنظيمية في هذا المجال، لكن يجب أن يُقيّم المعنيون فكرة توسيع صلاحيات المراقبة التي تملكها وزارة الأمن الداخلي، فقد ظهرت الطائرات المسيّرة في الأصل على شكل أدوات عسكرية ويُفترض أن يتم تنظيمها والتعامل معها كأسلحة محتملة أو أدوات مراقبة بدل وضعها في خانة المعدات الترفيهية أو التجارية، ولتحقيق هذه الغاية، يمكن تكليف وزارة الأمن الداخلي بإنشاء شبكة لمكافحة الطائرات المسيّرة مثلاً، أو تنسيق الجهود لجعل تقنية "السياج الجغرافي" إلزامية في جميع الطائرات المسيّرة.أخيراً، تحتاج الحكومة الفدرالية إلى مقاربة موحّدة لمعالجة مشاكل الخصوصية المرتبطة بالطائرات المسيّرة، فحتى الآن، امتنعت إدارة الطيران الفدرالية عن التحرك في هذا المجال، فربطت المهام التنظيمية بخليط فوضوي من القوانين المحلية، فمررت ولاية كاليفورنيا مثلاً قانوناً يستهدف مصوّري الباباراتزي لمنع مشغّلي الطائرات المسيّرة من التحليق فوق الأملاك الخاصة والتقاط الصور والفيديوهات، أما ولاية ألاباما، فهي لا تفرض أي قوانين مرتبطة بخصوصية الطائرات المسيّرة، ورغم إقرار بعض التشريعات الفدرالية، لا تزال هذه المسألة عالقة، ويُفترض أن يُمرر الكونغرس قانوناً لفرض معايير موحّدة وحماية جميع الأميركيين من التجسس عن طريق الطائرات المسيّرة التجارية أو الحكومية.يُذكّرنا امتناع الحكومة الأميركية عن معالجة التداعيات الأمنية لهذه التقنية الناشئة بالخطأ الذي ارتكبته في تعاملها مع شبكة الإنترنت عند ظهورها خلال السبعينيات والثمانينيات، ففي تلك الفترة، تخلى مهندسو الشبكة عن تدابير التشفير والخصوصية مقابل التوسّع والنمو، لكن يدفع البلد اليوم ثمن ذلك الخطأ.يعترف ستيف كروكر، أحد المهندسين المشاركين في تصميم شبكة الإنترنت، بأنه يندم على عدم مراعاته للمسائل الأمنية في تلك الفترة، فيقول: "كنا نستطيع بذل جهود إضافية، فقد كانت معظم الخطوات التي اتخذناها تهدف إلى الرد على المشاكل بعد ظهورها بدل استباق المشاكل منذ البداية".تستطيع الطائرات المسيّرة أن تُحدِث ثورة حقيقية وتُحسّن حياتنا بطريقة جذرية فتقدّم لنا كل ما نريده، بدءاً من تسريع توصيل الطلبات وصولاً إلى زيادة فاعلية الزراعة وتوقع أحوال الطقس بدقة مضاعفة، وللحفاظ على هذه المنافع وتخفيف التكاليف المحتملة، يجب أن تتبنى واشنطن مقاربة مختلفة بالكامل، مما يعني أن تستبق مخاطر الطائرات المسيّرة بدل التعامل معها بعد ظهورها، وإلا ستجازف الولايات المتحدة بفقدان سيطرتها على الوضع كما حصل مع شبكة الإنترنت.* توم دونيلون
دوليات
مخاطر الطائرات المسيّرة تصل إلى الولايات المتحدة
11-02-2022