أنا من الجيل الذي أمضى زهرة شبابه في المكتبات وبين الكتب، ومن الجيل الذي يتلذذ بتزيين بيته بأرفف الكتب، ليعقبه بعدها سالفة التفكير باقتناء الكتب، يعني "أجهز الدوا قبل الفلعة"، بسبب عشقي للكتب، وكثيراً ما تجولت في معارض الكتب بحثاً عن كتب تلائم ذوقي العقلي وتناسب اتجاهاتي الفكرية، فأحشرها بين ثنايا كتب زينت بيتي، وهي كتب قرأت غالبها الأعظم، وتصفحت بعضها، وبقيت على الأرفف بانتظار دورها في الاحتضان الروحي، وأحياناً "بانتظار جودو"، في ذلك الزمن الغابر عندما نحاول إعداد بحث علمي كنا نمكث في المكتبة ساعات طوالا بحثاً عن رأي أو معلومة تفيدنا في إتمام بحوثنا المرهقة، وما بين النجاح والفشل البحثي كثيراً ما كان "يتعب حمار أبونا"، أما اليوم فقد تبدل الوضع رأساً على عقب، إذ يستطيع أي جاهل بمعايير البحوث العلمية أن يكتب كلمة واحدة على شاشة محرك البحث "غوغل" لتنهال عليه قائمة بمئات الآلاف من المواضيع تتعلق بتلك الكلمة خلال ثوان معدودة، ليفبرك بحثاً علمياً ويلصق اسمه عليه مدعياً الإبداع.

وغوغل هذا صار بالنسبة إلى تنابلة القراءة مثل العاملة المنزلية، تجلب لك أي شيء تحتاجه وأنت في مكانك، فهم لا يحبون القراءة الحرة معتقدين أنهم قادرون على الحصول عليها أو إيجادها على الإنترنت في أي وقت، ولهذا فهم لا يقرأون ولا يحاولون تثقيف أنفسهم أو حتى تجديد فكرهم، ورغم هذا العزوف الثقافي والتغريب الفكري وجدت في أصغر أبناء أحد الأصدقاء ضالتي، وكأنه شذوذ عن القاعدة العامة، عندما عرفت من والده أنه يعشق القراءة بنهم غريب، حتى أنه يمكنه الاستغناء عن وسائل تكنولوجيا الاتصال تلك، فهو سريع القراءة ولا يحب كتابة الملاحظات على صفحات الكتاب ولا الإشارة بالعلامات ولا برسم الخطوط أثناء قراءة أي كتاب، مهما كانت أهمية تلك الملاحظات والعلامات والخطوط، بل لا يحب أن يثني أطراف الصفحات للدلالة على حدود قراءته مهما كانت الدوافع، ولا يستعير من والده أي كتاب، لأنه لا يحب أن يرى كتاباً في غير شكله الأصلي، بل إنه إذا تطابق ذوقاهما لقراءة كتاب، فإنه يحبذ أن يشتري نسختين من هذا الكتاب، واحدة لوالده والأخرى لنفسه، لأنه يريد أن يرى كتابه كالعروس في ليلة الدخلة، صافياً من كل كشط، ونقياً من أي ضباب، وخالياً مما يعكر بياض صفحاته.

Ad

ترى كيف نحبب أبناءنا وأطفالنا بالقراءة؟ إحدى المدارس ثنائية اللغة في الكويت تعودت في نهاية كل سنة دراسية أن تطلب من كل طالب في كل المراحل الدراسية أن يختار ثلاثة كتب يقرأها في الصيف، وعند بداية السنة الدراسية الجديدة يقدم كل طالب لمشرف الفصل ملخصاً للكتب التي قرأها في الصيف، وفي كل مرة وقبل بدء العطلة الصيفية، كان ناظر المدرسة يشجع الطلبة لقراءة معظم الكتب التي استعاروها من المكتبة، لترسيخ أهمية القراءة في أذهان الطلبة والطالبات لسنوات مضت.

● يوسف عبدالكريم الزنكوي