وجهة نظر: الأستاذ الجامعي التنموي
نعم لقد حصل على أعلى معدل في الثانوية العامة، ونعم لقد حصل على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من هارفارد وستانفورد وأكسفورد وبتقديرات استثنائية... لكن هو ليس بالضرورة مؤهلا لأن يكون أستاذاً جامعياً!تدرك الجامعات المرموقة تلك الحقيقة، لذلك عندما تعين دكتوراً جديداً تضعه تحت مجهر التجربة لفترة لا تتجاوز الست سنوات. بعدها، يتم تثبيته أو الاستغناء عن خدماته. وخلال فترة التجربة، يطلب منه أن يحقق مجموعة من الإنجازات في مجالات البحث العلمي والتدريس وخدمة المجتمع للتأكد من جودة عطائه وإنتاجيته.فعلى صعيد التدريس، عليه بشكل عام أن يطور مقررات قائمة ويستحدث أخرى جديدة، وعليه أن يصمم تجارب معملية، وأن يطور المختبرات التي تتعلق بتخصصه، كما يجب ألا تكون هناك ملاحظات على أدائه التدريسي بشهادة طلبته وزملائه المخضرمين.
ومجتمعياً، عليه بشكل عام أن يساهم باستشارات ودراسات من شأنها أن تعالج مشاكل المؤسسات بمختلف أنواعها وأحجامها، أو تطور نظما آلية أو بشرية، أو تكشف عن أبعاد أو مجالات لقضايا تعود بالفائدة على المؤسسات الحكومية والخاصة وتشغل المجتمع. وعليه أن يساهم في الارتقاء بأداء العاملين بسوق العمل، من خلال تقديم ورش تدريبية، والمشاركة في ندوات عامة وخاصة يحضرها المهتمون والعاملون في المؤسسات.ولإثبات قدراته العلمية والبحثية، عليه في الدرجة الأولى أن ينشر في مجلات علمية محكمة ومؤثرة، وأن يكون هذا النشر بإنتاجية لا تقل عن مقالة واحدة في السنة. وليست الإنتاجية فقط هي المعيار، بل الجودة كذلك، لذلك يتم النظر إلى عدد الاستشهادات التي تحوزها تلك المقالات من قبل زملائه الباحثين، وهناك معايير أخرى لا تقل أهمية يتم أخذها في الحسبان، مثل حجم التمويل الذي تحظى بها أبحاثه، ونسبة التمويل الخارجي منها، فكلما زادت هذه النسبة ازدادت قيمة وأهمية تلك الأبحاث وأثرها على التنمية. إذن هناك معايير محددة ومتنوعة يجب على الدكتور أن يستوفيها ليثبت للجامعة جدارته بأن يكون جزءاً من هيئتها الأكاديمية. لذلك يكون للتطبيق الصارم لهذه المعايير التأثير المباشر على الدرجة والمرتبة التي تحصل عليها الجامعة في التصنيفات العالمية، فمكانة الجامعة هي أمر لا يقبل التهاون أو المداهنة.الحقيقة التي يجهلها الكثيرون في الكويت هي أن أغلبية الحاصلين على شهادة الدكتوراه لا يملكون القدرة على استيفاء المعايير الثلاثة التي ذكرناها. وهذه الحقيقة لا تقتصر على الكويت فقط، فهي لحد ما عالمية. فالأستاذ الجامعي المؤهل هو ذلك الذي يستطيع أن يحقق إيرادات لجامعته، سواء كان ذلك من خلال أبحاثه أو استشاراته، وأن يساهم في تنمية اقتصاد بلده، فهناك أمثلة عديدة على أساتذة استطاعوا بدراساتهم وأبحاثهم أن يسهموا في تحسين أداء الشركات الصناعية ورفع جودة سلعها وخدماتها ومعالجة مشاكلها الطارئة والمزمنة، وأن يساعدوا على تطوير سياسات عامة في الخطط الإنمائية، تتناول المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتعليمية، والصحية، وأن يجلبوا الاهتمام لجامعاتهم وبلدانهم بنيلهم جوائز عالمية مثل جائزة نوبل، وجائزة أحمد زويل في العلوم الجزيئية، وجائزة تورينغ في تكنولوجيا المعلومات وعلوم الكمبيوتر، وجائزة الكويت للعلماء العرب في العالم.لذلك، نجد الجامعات المتميزة في الخليج والمنطقة العربية تتنافس فيما بينها على جذب الأساتذة الواعدين، وهي في ذلك لا تعطي اعتباراً إلى الجنسية أو العرق أو الدين، ويدعمها في هذا المسعى تقدير المجتمع وأصحاب القرار لأهمية الدور التنموي الذي تقوم به الجامعات المميزة.أتمنى أن تكون الرسالة التي قصدتها من خلال هذه المقالة قد وصلت للمجتمع بشكل عام ولأصحاب القرار بشكل خاص، فلقد راعني دعوة البعض إلى تطبيق سياسة الإحلال في جامعات الكويت، خاصة الحكومية منها. هذه الدعوة غير مبررة، بل يدرك الجميع أن واقعنا الحالي ومستوى التعليم لدينا غير مستعد لهذه الخطوة المتسرعة، وأن مستقبل أبنائنا وتحصيلهم العلمي يتعين أن يكون الأولوية الأولى. فلقد كان يشار لجامعة الكويت بالبنان في السبعينيات والثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن مستواها ما لبث أن تراجع مع التوسع باستبدال أعلام من الأساتذة الأجانب بأساتذة جدد من العائدين من دول الابتعاث، الأمر الذي ساهم في تدني مستوى التنافسية في العملية الأكاديمية والعلمية، ما أدى إلى الوضع الحالي الذي لا نحسد عليه. نعم، نؤمن بالقدرات الوطنية، ولكن هناك العديد من الخطوات والأمور المهمة جداً الواجب اتخاذها قبل إطلاق دعوات غير مدروسة وغير مسبوقة. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، التثبيت الفوري في العمل للأساتذة الكويتيين حصراً، والذي لا يسمح بالاستغناء عن خدمات المقصرين منهم، وكذلك تهافت بعض الأساتذة الكويتيين، خاصة الشباب منهم، على المناصب الإدارية ذات المردود الأكبر والجهد الأقل داخل وخارج الجامعة، فأصبحت الجامعات في الكويت عبئا على جهود التنمية عوضاً عن أن تكون عوناً لها. ونختم بسؤال جوهري وغاية في الأهمية: هل لدى الجامعات في الكويت القدرة على استقطاب النخب من الأساتذة الأجانب في ظل المنافسة التي تشهدها دول الخليج، والتي وضعت التعليم ومستقبل أبنائها في أعلى سلم أولوياتها؟!