"تكويت القضاء" الذي يضعه مجلس القضاء الأعلى، وبمقدمتهم المستشار أحمد مساعد العجيل ضمن أولوياته للنهوض بعمل السلطة القضائية بات أحد القضايا المثارة حالياً على الساحة السياسية، إلا أن هذا الملف الذي يعمد النائب النشيط د. عبدالكريم الكندري على الدفع به وجعله أولوية آنية يتعين أن يكون بعيداً عن الحسابات السياسية، والتفكير جدياً بأن الأمر مرتبط بعوامل قوامها الكفاءة الفنية وجودة العمل القضائي والقدرة على إدارة الجلسات وإصدار الأحكام (فقط).والعمل الفني أو الذهني لا يمكن ربطه بجنسية معينة بل بالكفاءات البشرية الوطنية أو الأجنبية، ومثلما كانت الدواعي نحو الاستعانة بالعناصر الأجنبية نظير كفاءتها الفنية والمهنية يبقى ذلك العامل هو الأوحد لا عامل آخر نحو التعاقد سواء في الأعمال القانونية أو الطبية أو الهندسية أو أية مهنة أو وظائف ذهنية يتم التعاقد معها.
والحديث اليوم عن قطار التكويت للوظائف المهنية الذهنية والفنية أمر مهم جداً، إلا أن الاندفاع نحوه دون التأكد من جاهزية كل العناصر العاملة والبديلة في كل منظومة سيقود إلى الإضرار بها لعدم جاهزيتها لذلك الأمر.وعندما تتوافر الكفاءات الوطنية الكافية لتغطية ذلك، وبعد التأكد من تمتعها بكفاءة وجودة عالية في الأداء الفني والمهني يمكن الحديث عندها عن توقف الاستعانة بالكفاءات الأجنبية لعدم الحاجة إليها، وقبل ذلك التأكد من منظومتنا القانونية أنه لا يمكن الحديث عن الإحلال الكامل في مرافقنا الفنية وتحديداً القضاء والنقابة العامة والفتوى والتشريع.وقضية توطين الجهاز القضائي ليست قضية استبدال موظفين بآخرين بل استبدال كفاءات بكفاءات أخرى مماثلة لها أو أعلى منها، فإن توافرت تلك الكفاءات تحقق ذلك وإن لم تتوافر يتعين علينا تهيئة ذلك وفق خطط فنية وجدول زمني يحقق ذلك.الاندفاع نحو التكويت القضائي اليوم سوف يؤدي بنا إلى الاستغناء عما يقارب 400 مستشار وافد موزعين بين النيابة العامة والمحاكم ونيابة التمييز، في حين لن نتمكن من سد هذا الفراغ إلا بـ400 قاض حديثي الانضمام، إن وجد هذا العدد أصلاً في الوقت الحالي لتغطية هذا الاحتياج. ولا يمكن القول بإمكانية ذلك في ظل نقص حملة شهادات الحقوق العاملين في الأجهزة القانونية والعاملين في مهنة المحاماة أو التحقيقات، فالكفاءات في تلك الأجهزة لن تترك عملها، وإن تركته فلن يتمكن الجهاز من مساواتهم إدارياً وفنياً بنظرائهم العاملين في الجهاز القضائي حالياً، وعليه لا يمكن الجزم بسد هذا النقص الذي ستتعرض له الأجهزة القضائية، وإنما يكون من خلال إيجاد الخطط الفنية اللازمة لتلك البنية، وكذلك الجدول الزمني لتحقيق ذلك الإحلال وذلك بتحديد خمسة أعوام مقبلة على سبيل المثال، ليتمكن الجهاز القضائي بفضل الترقيات من توفير 400 من رجال القضاء بدرجة مستشار ووكيل محكمة لرئاسة الدوائر، شريطة أن يتم تخفيض المدد البينية للترقيات لتحقيق ذلك الرقم المطلوب، مع الاستمرار في رفع نسب القبول في النيابة العامة طالما ستبقى النيابة العامة المنفذ الوحيد للتعيين في السلطة القضائية.
الكوادر الوطنية
وجاهزية المنظومة الفنية في القضاء والنيابة والفتوى والتشريع تعني تهيئة العناصر والكوادر الوطنية على نحو كامل لتغطية أوجه العمل في كل المجالات القانونية والقدرة على تحقيق تلك التغطية بكفاءة وجودة عالية وخبرات متراكمة، ومثل تلك المتطلبات اليوم متفاوتة على أرض الواقع، ولا يمكن الجزم بتوافرها في كل الأوساط القانونية الحكومية، وهو ما يتعين العمل معه نحو تطبيق خطط فنية وزمنية لإدخال الإحلال المنشود حيز التنفيذ، وألا يكون رهن الضغوط السياسية، بل رهن التهيئة الفنية التي تؤكد جاهزية تلك الأرضية لقبول حاجة التكويت في الوظائف والمهن القانونية على حد سواء.التكويت
ومن بين الخطط التي يتطلبها أمر التكويت في الوظائف القانونية، ومنها القضاء والنيابة العامة والفتوى والتشريع، إعداد الدورات والبرامج القانونية في معهد القضاء وكلية الحقوق لتطوير مهارات الكتابة على تسبيب الأحكام وإعداد المذكرات القانونية وإدارة الجلسات على نحو مكثف للقضاة حديثي الانضمام للعمل في المحاكم مع ربطها بالترقيات التي يحصلون عليها فضلاً عن نقلهم للعمل موسمين أو ثلاث في نيابة التمييز بما يساهم في رفع كفاءتهم القانونية الفنية في فهم الطعون والدفوع القانونية ومهارة قراءة الأحكام وتسبيبها والرد عليها، لاسيما أن أعداد القضاة اليوم وإزاء تدفق عملية القبول السنوية في النيابة العامة تسمح بنقل ما يقارب 20 قاضياً سنوياً إلى نيابة التمييز من أصل 60 يتم نقلهم إلى المحاكم من النيابة العامة.حديثو الانضمام
كما يتعين العمل نحو رفع كفاءة ومهارة وخبرات القضاة الوطنيين حديثي الانضمام للعمل في المحاكم وذلك بأن يتم إبقاؤهم في العمل بدوائر يترأسها قضاة بدرجة وكلاء للمحكمة وبدرجة مستشارين، لأن هؤلاء هم من يتمتعون بخبرة الأداء ومهارة الكتابة والتسبيب، في حين يكشف الواقع اليوم في المحكمة الكلية أنه لا يوجد بها سوى 18 قاضياً بدرجة مستشار و50 بدرجة وكيل محكمة من أصل 403 قضاة، وهو عدد قليل جداً يستدعي أن يتم ندب عدد من مستشاري محكمة الاستئناف لرئاسة الدوائر في المحكمة الكلية، بما ينعكس إيجاباً على عمل الدوائر القضائية في المحكمة الكلية.الدوائر
كما يتطلب الأمر لتحقيق الكفاءة اللازمة تقليل عدد الدوائر التي يتولى أمر الفصل بها القضاة، وذلك لأنه لا يمكن أن يشترك القاضي للعمل في ثلاث دوائر قضائية ليتمكن من إصدار أحكام قضائية ذات جودة تامة ويتمكن من تسبيب الأحكام والرد على كافة الدفوع ومن دون أن يعتمد على نماذج أو اختزال بعض الأسباب في أحكامه دون أن يتوفر له الوقت الكافي لكتابتها، وهو الأمر الذي يستدعي إسناد دائرتين فقط للقاضي بدلاً من ثلاث.كما أن الواقع يكشف أن تولي القضاة وهم حديثو الانضمام للمحاكم، الفصل بثلاث دوائر قضائية أسبوعياً علاوة على ما يمثله ذلك من ضغط ذهني بحقهم، يتسبب في تأخير الفصل في القضايا، خصوصاً في ظل ارتفاع أعداد القضايا، وهو ما يتعين معه النظر بالعودة إلى نظام الدوائر الثلاثية بدلاً من الرباعية، ومع زيادة عدد الدوائر القضائية وتقليل إسناد عدد القضاة بمعدل دائرتين للقاضي بدلاً من ثلاثة، وأن الموسم المقبل سيشهد نقل العديد من وكلاء النيابة العامة إلى القضاء بواقع 60 وكيلاً أو ما يزيد على ذلك.المنظومة القضائية
تطوير المنظومة القضائية ورفع كفاءة العاملين فيها من العناصر الوطنية وفق خطط وبرامج واقعية وعبر عدد من الأجهزة المختصة كمعهد القضاء وكلية الحقوق هو الأهم لتهيئة الحديث عن تكويت القضاء أو توطين العمل في الأجهزة القانونية بالبلاد، ومن دون تلك التهيئة أو غيرها من البرامج التي تساهم في رفع كفاءة ومهارة العاملين في الأجهزة القضائية وفق خطط وجدول زمني لا يمكن الحديث عن الحاجة الفنية لتوطين الوظائف والمهن القانونية.