بعد ثلاثة عقود على إبرام معاهدة "ماستريخت"، لا يزال الاتحاد الأوروبي كياناً قيد التطوير، حيث تبدو التحالفات السياسية في عام 2022 إيجابية وقد تسمح بإصلاح مجالات سياسية عدة، لكن يسهل أن يواجه الاتحاد الأزمات مجدداً.كانت معاهدة "ماستريخت" التي أبرمها الموقّعون منذ ثلاثين سنة، في 7 فبراير 1992، آخر رهان كبير لتحقيق التكامل الأوروبي، فقد أقنع الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، المستشار الألماني هلموت كول حينها بالتضحية بعملة المارك الألماني لتعزيز الوحدة الأوروبية وإثبات إعادة توحيد ألمانيا بطريقة ملموسة أمام الدول المجاورة لها.
بعد مرور ثلاثة عقود، تلاشت حقبة الابتكار الكبير الذي رافق التغيرات التي فرضتها المعاهدة، فداخل الاتحاد الأوروبي المتوسّع وغير المتجانس، تجد الحكومات اليوم صعوبة في إيجاد قواسم مشتركة بينها، كذلك تحظى الأحزاب الشعبوية بدعم كبير اليوم، وقد يُمهد أي تغيير جذري في المعاهدة لإجراء استفتاءات عدة ذات نتائج غير متوقعة، فلا تحب الحكومات عموماً أن تراهن على روسيا، لكن لا تزال الحاجة إلى تطوير سياسات الاتحاد الأوروبي قائمة، لذا بات التركيز يصبّ الآن على تشريعات ثانوية وأدوات قانونية ومالية سلسة. اليوم، تشبه أجندة الاتحاد الأوروبي الإصلاحية سلسلة من المجالات المتداخلة بدرجة معينة، منها الاتحاد النقدي، والحوكمة الاقتصادية، والتغير المناخي، والابتكار الرقمي، والهجرة، والدفاع، وستبقى العملية الانتقالية في ملف المناخ على رأس الأولويات مثلاً، فبعد تحديد الأهداف الطموحة وإلقاء خطابات سياسية مقنعة على غرار "الاتفاق الأوروبي الأخضر"، انتقل التركيز اليوم إلى آلية التنفيذ، ومن المتوقع أن يتم التفاوض حول الملفات التشريعية الأساسية لتخفيض الانبعاثات في أسرع وقت على مر عام 2022، لكن التركيز على آلية التنفيذ يترافق مع تحديات سياسية إضافية، فقد أثبت ارتفاع أسعار الغاز منذ الآن طبيعة المشاكل المرتقبة، وتبرز الحاجة إلى إحراز تقدّم ثابت في هذا المجال أيضاً.على صعيد آخر، من المتوقع أن تلقى الحوكمة الاقتصادية اهتماماً كبيراً لأن القواعد المالية المُعلّقة خلال أزمة كورونا ستصبح سارية المفعول مجدداً بعد هذه السنة، وتبدو التغيرات الكبرى في معايير الاتفاق المالي مستبعدة، لكن يمكن تسهيل الاستثمارات الجديدة في المناخ والعالم الرقمي وقوة التحمّل عبر تطبيقها بمرونة متزايدة.في ما يخص الأمن والدفاع، من المنتظر أن يستعمل الاتحاد الأوروبي في مارس 2022 أداة "البوصلة الاستراتيجية" التي تهدف إلى تطوير هذه السياسات في أسرع وقت، لكن لا يزال الاتحاد بعيداً كل البعد عن طرح نفسه كلاعب جيوسياسي جدير بالثقة، وتزداد الحاجة راهناً إلى تكثيف جهود المفوضية لزيادة قوة الاتحاد الأوروبي عبر تخفيف الاتكال المتفاوت على الآخر، وتنويع سلاسل الإمدادات، وحماية الاتحاد من الإكراه الخارجي.يبدو اصطفاف القوى السياسية اليوم أكثر إيجابية مما كان عليه في السنوات الأخيرة، لكن يستحيل أن نغفل عن الغيوم السوداء التي تخيّم فوق أوروبا. بعد مرور سنتين، لا يزال وباء كورونا يطغى على السياسة الأوروبية ويستنزف طاقة القادة السياسيين ويلهيهم عن أولويات مهمة أخرى، فقد يصبح هذا الفيروس مستوطناً في نهاية المطاف، لكن لا شيء مؤكد حتى الآن، ورغم تلاشي المخاطر الاقتصادية، من المتوقع أن تلقي الأضرار الاجتماعية بثقلها على الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة.لقد أوصلت تصرفات روسيا العدائية أوروبا إلى شفير الحرب، وبدل "تعلّم لغة القوة"، كما أعلن مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، جوزيب بوريل، بكل فخر في بداية عهده، بدأ الاتحاد يعود إلى التبعية القديمة للولايات المتحدة، وفي الوقت الراهن قد تسهم واشنطن في السيطرة على الأزمة، لكن قد يطرح هذا الاتكال المفرط مشكلة مستقبلية نظراً إلى غياب السياسات الأميركية البناءة بعد عام 2024.أخيراً، لا مفر من التشكيك في أساس الاتحاد الأوروبي ككيان قانوني نتيجة غياب حُكم القانون في المجر وبولندا، وإذا لم تُعالَج المشكلة عبر الانتخابات أو استعمال الأدوات القانونية والسياسية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فقد تتصاعد الاضطرابات بدرجة إضافية وتُسمّم التعاون الأوروبي في مجالات سياسية متنوعة.في الوقت الراهن، لا أحد يستطيع التأكيد على حصول تقدّم حقيقي خلال الأشهر المقبلة بفضل المواقف البناءة التي تطلقها معظم الحكومات اليوم، أو ميل الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة أزمة شاملة بسبب التحديات الخارجية أو الداخلية، وفي مطلق الأحوال، من المتوقع أن يكون عام 2022 مثيراً للاهتمام.
مقالات
أوروبا تتخبط بعد 30 سنة على معاهدة «ماستريخت»
16-02-2022