ثمة اشتباك دعائي بين روسيا من جهة والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، فقد أعلنت موسكو سحب قواتها من قرب الحدود الأوكرانية والغرب يشكك في روايتها، لكن الحرب الإعلامية التي لم تخمد بعد أظهرت تفوق روسيا على الولايات المتحدة في هذه المعركة، فالولايات المتحدة كررت قولها إن روسيا ستغزو أوكرانيا وذهبت إلى أبعد من ذلك بتحديد يوم الهجوم الروسي على أوكرانيا في يوم الأربعاء 16 فبراير لكن ذلك لم يحصل.

روسيا من جانبها أشاعت في ردها الإعلامي أن لا نية لنا بمهاجمة أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة وحلفاءها أفرطوا في اتهاماتهم لموسكو بسبب إصابتهم بهستيريا، وقد كرر المسؤولون الروس هذه الجملة عدة مرات، ومن جانبها خاضت الولايات المتحدة حربها الإعلامية من خلال المعلومات الاستخباراتية التي ترد تباعا عبر الأقمار الاصطناعية، حيث حددت واشنطن مواقع القوات الروسية حول أوكرانيا، وقدرت أعدادها بـ30 ألفا، والتي توجهت إلى بيلاروسيا بـ70 ألفا، وكشفت عن الأسلحة الحديثة التي في حوزة تلك القوات، وأشارت إلى السفن التي توجهت إلى سواحل شبه جزيرة القرم وتقوم بمناورات هناك. أسلوب الحملة الإعلامية الأميركية كان محاولة لحرق أوراق بوتين كوسيلة للضغط عليه، بألا يبادر لمهاجمة أوكرانيا، وفي الوقت نفسه كسب الموقف الأوكراني المؤيد لحملة الولايات المتحدة، فالغرب بقيادة الولايات المتحدة ومعه بريطانيا يشكك في ذلك، فعادت الأزمة إلى المربع الأول، وبرغم إعلان موسكو سحب قواتها من مناطق المناورات بالقرب من الحدود الروسية- الأوكرانية ومن بيلاروسيا فإن بلينكن نفى ذلك، وأن هناك قوات في طريقها لتعزيز القوات التي لم تنسحب من مواقعها، وأيد ذلك وزير الدفاع البريطاني الذي نفى سحب القوات الروسية من موقعها، وهكذا وضع العالم أمام مستقبل مجهول.

Ad

يمكنني القول إن بوتين جعل من نفسه في إدارة هذه الأزمة مركز هذه المعركة الإعلامية، وربح إحدى معاركه الإعلامية في تعامله مع الغرب، وأظهر العالم الغربي بأنه يتخبط، إذ مارس ضغوطا على شركائه الأوروبيين بحيث جعلت الأزمة منه مركز القصية من خلال زيارات الزعماء الغربيين، فرنسا، ألمانيا، بلينكن إلى الكرملين كي يقبل بوتين بألا يغزو أوكرانيا.

وهناك تساؤل مشروع: ما الذي جعل بوتين يصل إلى هذا الوضع؟ فهو الوحيد الذي قرر التضحية بدماء جنوده لأجل حماية الأمن القومي الروسي في ضوء تعاظم الوجود العسكري الغربي في أوروبا بالقرب من الحدود الروسية، أما الجانب الأميركي فكرر تصريحاته بأنه سيدعم أوكرانيا، ولكن لا قوات له في أوكرانيا سوى أعداد قليلة ومساعدات مادية عسكرية، ولكنه نشر قوات حول أوكرانيا في عدد من الدول الأوروبية، حيث وصل عدد القوات الأميركية في المنطقة إلى نحو 60 ألف جندي و200 دبابة وأسراب من الطائرات المقاتلة منها قاذفات بي 52 التي حطت في مطارات بريطانيا خلال الأزمة حسب المندوب الروسي في مجلس الأمن الدولي. يمكن القول إن الولايات المتحدة حددت أهدافها من دفع روسيا لمهاجمة أوكرانيا، وهي وقف تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو ما أحدث تباينا في مواقف الزعماء الأوروبيين، كما ابتغت الولايات المتحدة إشغال روسيا في صراع مع جاراتها لتحد من نموها الاقتصادي لتتبعها الصين في صراع مماثل لثبيط نمو اقتصادها المتصاعد تزامنا مع تراجع نمو الاقتصاد الأميركي. المعادلة الحقيقية التي يمكن أن تفرض نفسها على الأرض هي ما يفعله بوتين الذي يحرك قواته على الأرض لدعم مطالبته بضمانات مكتوبة بأن أوكرانيا لن تدخل حلف الناتو، ويريد بوتين تغيير نظام الأمن في أوروبا بما يضمن مصالح روسيا والدول الأوروبية أيضا، فهو يملك أوراق الضغط على الغرب لأنه يحرك جنوده، وهو يعلم أن الاستخبارات الغربية تصور تحركات تلك القوات، وبذلك يوصل رسالة إلى خصومه، وفي الوقت نفسه رسالة أخرى أكثر هدوءا إلى الرأي العام مفادها أنه لا يريد الحرب، وفي النهاية رسائل بوتين واضحة، نريد هذه الضمانات وإلا فإن القوات الروسية على الحدود ستفعل ما تفعله إن لم يرضخ الغرب لمطالبه.

ورغم حصول بوتين على بعض التقدم في المفاوضات الدبلوماسية مع الغرب فإنه خرج ليقول: "هذا غير كاف... ولماذا التأجيل كي تعدوا أوكرانيا للانضمام للحلف؟ عندها سيكون الوقت مناسبا لانضمامها لحلف الناتو، ولكن روسيا تريد معالجة المشكلة الآن"، وأصر بوتين على مطالبته بعدم انضمام أوكرانيا للناتو بقوله: "الآن وليس غداً"، وكأن اليوم أشبه بالبارحة عندما أعلن القائد الشيوعي لينين بقوله: "أمس مبكراً وغداً متأخراً" ويعني بذلك لنبدأ الثورة الآن. هناك ورقة أخرى يلوح بها بوتين، وهي أن هناك جمهوريتين في إقليم دونباس أعلنتا الاستقلال والآن الدوما وضع بطاقة على مكتب بوتين للاعتراف الروسي بهما للتوقيع عليها، لكن بوتين يتريث في اتخاذ خطوات تصعيدية لانتظار إلى أين ستؤول محادثات مينسك لأنه أولا يريد الحصول على مصالحة بطريقة أخرى، وثانيا المحافظة على علاقات جيدة مع الغرب، لكنه مستعد لدفع ثمن معين للحصول على العلاقات الجيدة مع حفظ هذه المصالح وفي الوقت نفسه يلوح بورقة دونباس ويحرك هذه القوات. وبالرغم من تصدر بوتين في مركز هذه الجولة يبدو أن اتهامات الغرب له بأنه يحرك قواته من مكان إلى آخر غير واضحة، وقد يكشف تراجع الغرب وتلبية مطالب روسيا عن حقيقة تفاصيل الأزمة ليتبين للعالم من الرابح في نهاية هذه المعركة.

جودت مناع

* كاتب صحافي فلسطيني.