«بيتها على النهر»... ديوان في حب الوطن
الشاعر السوري فواز قادري ينسف الجغرافيا ويحتقب الفرات أينما حلّ
ببراعة فنان ماهر في نسج الكلمات، يأخذنا الشاعر السوري المقيم في ألمانيا فواز قادري في رحلة إلى عالم قصيدته الفريد، وفي ديوانه الصادر حديثاً عن دار الدراويش للنشر والترجمة في بلغاريا بعنوان "بيتها على النهر" يتكئ على ذكريات جميلة في وطنه الذي تمزقه الحروب والصراعات، والذي غادره مرغماً لتجنب الأوضاع الأليمة، لكنه لم يفقد أبدًا مشاعر الحنين إلى كل التفاصيل الدقيقة، فقد ظلت نبعاً رئيساً لكل حرف وكل قصيدة، وبقي الوطن في وجدانه وروحه أينما حل.كأن الوطن هو الحبيبة، يناجيها ويتذكر معها أجمل الأشياء، إذ نجد فواز قادري يحكي لنا جانباً من ذكرياته الجميلة في إطار من النوستالجيا، ولا يكاد القارئ يعرف على وجه الدقة هل القصيدة عن الحبيبة أم عن بلاده الحبيبة أيضاً، فكلاهما وجه للآخر، حيث أذاب الفارق بينهما بأسلوب بديع وبصورة شعرية بليغة تجعل من بيت الحبيبة أيقونةً ثابتةً للحياةِ، مطلةً على نهر الفرات، ومفتوحة أيضاً على قلب الشاعر:بيتها ينام ويصحو على الفرات
وقلبي يذهب ويعودهذا هو الفرق بينهماأذهب إليها ولا أعودأقتدي به وأتحجّجويصبح النهر هو الشريان الرابط بين قلبه وقلب حبيبته/ وطنه، ويبدأ في رسم صورة تعبِّر عن هذا الرابط المتين في أجواء تمتلئ بالمنمنات كصوت الموج وحركة الأسماك في النهر وصورة القمر وشرفة البيت المشيّد بالطوب اللبن أو الطين، وهو دلالة على أن البيت جزءٌ من الأرض والأخيرة هي الوطن:أنتظر أن يُرجعني النهر إلى قلبهامن السطح حيث تنام في الصيفتسمع صوت الموج يلعب مع الأسماكوالقمر الشقيّ يسهر عند شرفتها الطينيّةولا يكتفي الشاعر بإزاحة الستار عن مشاعر ودِه واشتياقه، بل ينقل إلينا حال الحبيبة في غيابه بعد اغترابه، وكأنها هي الأخرى متألمة ومصابة بالأرق ولا تغفل عينها كونه بعيداً عن حضنها:تفكّر بي ولا يأتيها النوموأنا أتقلّب في البعيدكشبّوط مزهوربيتها في مكانه لا يتحركوقلبي خلفها فرات يجري ثم يعود الشاعر ليؤكد أن الأرق وغياب النوم حالة مشتركة بينه وبين حبيبته، فالوطن هو الآخر لا يستقر له جفن طالما كان أبناؤه بعيدين عن أحضانه، وكلاهما يتزلزل ألماً لو اهتز الآخر هزة بسيطة، وأي غناء لا يعدو كونه مجرد صوت ناي مشروخ حزين، وإن غادر المرء أرضه مُكرهاً فإن ظله ينتحر في مكانه ويأبى أن يرافقه رحلة الاغتراب:لا يستقرّ النوم ووجهك يشغل العينينأصغر اهتزاز يشبه الزلزالوأي غناء يشبه شروخ نايات لا تشفىأغادرك وظلي ينتحر في مكانهمن يبقى ومن يذهبلا أتيقّن حتى يرقص صوتي مع موجة هواء عليلوحتى يتحوّل خرير النهر إلى مقامويرفض قادري فكرة انتهاء أو اندثار الوطن الحبيب، بل نراه في قصيدته وكأنه يحتقب وطنه في أي مكان يذهب إليه، ويظل متأبطاً نهرَه كصحيفة ورقية أينما حل، وحين يتعب يفترشها على الأرض ليستريح من عناء الحياة وألم الفراق:لو ينطوي بيتكِ كالجريدةلما عاتبت نهرك يذهب ولا يعودأحمله معي وأجوب البلادوحين أتعب أفرشه على أي بقعة من الأرض وأستريحلو ينطوي بيتك كقصيدة مكتوبة على ورقأفرده في محطة لا ليل لهاوأدعو الفرات كي يمرّ بجانبيوتطول القصيدة بلغةٍ متدفقة شفيفة، وتتزاحم فيها القصص والحكايات التي يرويها الشاعر بلغةٍ حبرها الحب والحنين، وصورتها الأخيرة دائماً هي الحياة، غير معترفٍ بحدود الجغرافيا، فالوطن لا يعرف الموت بل يعيش في الوجدان أينما ذهب ومهما ابتعد عنه أبناؤه الأوفياء، وقادري واحد من هؤلاء، تتعلق روحه بنهرٍ خالد عزيز، ويأبى الأخير أيضًا أن يفارقه.يُشار إلى أن فواز قادري شاعر سوري مقيم في ألمانيا، من مواليد دير الزور عام 1956. له العديد من الإصدارات، منها "وعول الدم" (1992)، و"بصمات جديدة لأصابع المطر" (1993)، و"نهر بصفة واحدة" (2009)، و"لم تأتِ الطيور كما وعدتك" (2010)، و" في الهواء الطلق" (2011).