اجتمع المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، مع الرئيس الأميركي جو بايدن في 7 فبراير الماضي للإيحاء بوجود جبهة غربية موحّدة، لكنّ بعض الخلافات لا يزال قائماً بين البلدَين الحليفيَن، لا سيما مسألة تحديد مصير ثاني خط لأنابيب الغاز بين روسيا وألمانيا، فقد انتقد الكثيرون الحكومة الألمانية الجديدة عن غير وجه حق، مع أنها عبّرت بكل جرأة عن معارضتها لأي تصعيد عسكري محتمل في أزمة أوكرانيا الراهنة، وأوصى القادة الأوروبيون ألمانيا بالتصرف مثل الدنماركيين والفرنسيين وإرسال قوات عسكرية إلى شرق أوروبا في أسرع وقت، والتزمت برلين حديثاً بإرسال قوة رمزية مؤلفة من 350 عنصراً إلى ليتوانيا، لكن لا يزال التردد الألماني واضحاً، وتعرّض شولتس وفريقه تحديداً لانتقادات لاذعة لأنهم غير مستعدين للسماح بتدفق الأسلحة من دول البلطيق إلى أوكرانيا، وفي غضون ذلك، يسارع البريطانيون إلى إرسال طائرات شحن عسكرية محمّلة بالأسلحة، وقد بدأ الأميركيون الآن يطبقون هذه المناورة المحفوفة بالمخاطر.أما برلين، فقد عارضت اللجوء السريع إلى الأسلحة والمواقف العدائية التي ترافق هذه الخطوة لثلاثة أسباب وجيهة على الأقل:
أولاً، تفترض ألمانيا أن أوكرانيا لا تملك فرصة للفوز في أي صراع عسكري، وهي محقة في موقفها، ففي المقام الأول، يفتقر البلد إلى قوة جوية حقيقية وتبقى دفاعاته الجوية ضعيفة، ويسهل أن يُدمَّر الجيش الأوكراني، بشكله الراهن، على وقع الصواريخ والمدفعيات طويلة المدى، كما حصل خلال الهزيمة المدمرة في "دبالتسيف" في شرق أوكرانيا، في فبراير 2015. وإذا هاجمت روسيا البلد من ثلاثة اتجاهات على الأقل دفعةً واحدة، فلا مفر من أن تثبت روسيا تفوّقها وتُجرّد أوكرانيا من أي خطة دفاعية قابلة للتنفيذ، مما يعني أن البلد قد يخسر عاصمته خلال بضع ساعات، ويعرف الألمان من جهتهم معنى الحروب غير النظامية، لذا يميلون إلى منح روسيا نطاق النفوذ الذي تريده ويفضلون إخماد جمر الحرب الأهلية الأوكرانية الساخنة في أسرع وقت بدل صب الزيت على النار، وأدرك الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا كان سيؤدي إلى سقوط عدد إضافي من القتلى الأوكرانيين لأن الكرملين يستطيع تصعيد الوضع في أي لحظة، لكن لم يستوعب أيٌّ من خلفائه هذا الواقع للأسف.ثانياً، تدرك ألمانيا بالكامل أن المسألة النووية تخيّم على الأزمة الراهنة في أوكرانيا، لكن العواصم الغربية الأخرى تغفل عن هذه الحقيقة بشكلٍ مخجل. تعرف برلين مختلف جوانب تحديث الأسلحة النووية الروسية، بدءاً من الصواريخ البالستية العابرة للقارات وصولاً إلى قاذفات القنابل والصواريخ النووية في الغواصات، ولا ننسى الأنظمة النووية التكتيكية التي يقع بعضها على مقربة شديدة من ألمانيا، وتحديداً في المدينة الروسية العسكرية "كالينينغراد". يدرك شولتس وفريقه، أكثر من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مثلاً، أن الحقبة النووية الراهنة تتطلب أعلى درجات الحذر في اتخاذ القرارات المرتبطة بالسياسة الدفاعية وتفرض الالتزام بالواقعية السياسية، مما يعني تجنّب المواقف الصدامية والمجازفات غير المبررة.أخيراً، تدرك برلين مسؤولياتها التاريخية، فهي تعرف مظاهر الدمار والجرائم المريعة التي ارتكبها النظام النازي في أنحاء أوروبا، لذا من المتوقع أن تختار المفاوضات والحوار والتسوية كونها تدرك أن التصعيد العسكري مع روسيا هو الطريق إلى الهلاك، ومن خلال تبنّي هذا الموقف المبدئي، يتمسك شولتس بالتقليد الألماني المبني على الدبلوماسية المسؤولة التي تهدف إلى إرساء السلام، وهو يعود في الأصل إلى حقبة "السياسة الشرقية الجديدة" في عهد ويلي براندت، لكنه يعكس أيضاً نهج أنجيلا ميركل القائم على الدبلوماسية البراغماتية مع جميع الأطراف، بما في ذلك الكرملين، فقد عارضت ميركل خلال عهدها السابق توجهات واشنطن ودعمت بكل عناد خط الأنابيب "نورد ستريم 2" لأنها تعرف أن هذا المشروع يخدم مصلحة ألمانيا الوطنية، وتدرك أن تعزيز الترابط الاقتصادي بين ألمانيا وروسيا ينعكس إيجاباً على الأمن الأوروبي أيضاً. من الواضح أن ألمانيا لا تختبئ من تاريخها المظلم، بل إنها تبذل قصارى جهدها لإرساء السلام في كل مكان، بما في ذلك أوكرانيا المضطربة، وهذا النهج يستحق الإشادة حتماً، ويجب أن تعترف الدول الأخرى إذاً بالفصول القاتمة من تاريخها وتحذو حذو برلين لدعم الحوار والسلام والتسويات في الأزمة الراهنة. *لايل غولدستاين
مقالات
ما تقييم ألمانيا للأزمة الراهنة في أوكرانيا؟
23-02-2022