وجهة نظر: حلول رتقية لمشاكل مُزمنة
هناك نوعان من المشاكل، طارئة ومزمنة. المشكلة الطارئة هي خللٌ يُصيب منظومة عمل جيدة، بينما تُصيب المشكلة المزمنة منظومة عمل هي أصلاً غير جيدة وفق المعطيات والظروف القائمة. لذلك، من الخطأ مُقاربة مشكلة مُزمنة بحلٍ رتقي (كخياطة ثوب مُمزق)، كما أنه من الخطأ مُقاربة مشكلة طارئة بحل جذري. الحل لمشكلة طارئة هو بحلٍ يرتق مكمن الخلل، بينما الحل لمشكلة مُزمنة هو بحلٍ يستبدل المنظومة القائمة بأُخرى جديدة (انظر الجدول). فعندما ترتفع درجة حرارة مُحرك السيارة وتتكسر أجزاء رئيسية فيه، على سبيل المثال، فالحل هو ليس بالتعويض المُستمر لنقص زيت المُحرك، بل هو في إعادة بناء المُحرك من جديد.
تُعاني الكويت منذ زمن بعيد من جُملة من المشاكل المُزمنة، أبرزها: تراكم طلبات الإسكان، والعجز في صندوق التأمينات الاجتماعية، وتدني مستوى التعليم العام والعالي، وحرمان الكويتيين البدون من العيش الكريم، واعتماد الاقتصاد على الصادرات النفطية. جميع هذه المشاكل قاربتها الحكومات المتعاقبة بمنهجية رتقية؛ فهي مُستمرة في ضخ الأموال لسد عجز صندوق التأمينات العاجز عن مواكبة الأعداد المُتزايدة من المُتقاعدين، وهي كذلك مُستمرة في دعم المؤسسة العامة للرعاية السكنية وبنك الائتمان الكويتي العاجزين عن تلبية طلبات الإسكان المُتزايدة، وهي مُستمرة في رصد الميزانيات الضخمة لتشييد المدارس والجامعات الحكومية والخاصة لتوفير تعليم مُتدني المستوى، وهي أيضاً مُستمرة في إنفاق الملايين سنوياً على جهاز ثبُت فشله في حل مشكلة الكويتيين البدون وتوفير حياة كريمة لهم، وهي مستمرة منذ ستينيات القرن الماضي في تصدير النسبة الأكبر من النفط كمادة خام.الدولة بعدد مواطنيها المحدود ووفرة مواردها المالية استطاعت أن توفّر أراضي سكنية وبمساحات واسعة ومنحت التسهيلات والقروض المريحة في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لكن عندما زاد عدد المواطنين وشحت الأموال، لم يعد هذ النهج مُناسباً لتلك المعطيات والظروف المستجدة. إلا أن الحكومات المتعاقبة تجاهلت تلك المُستجدات واستمرت في التخبط، مما أدى إلى زيادة طوابير الانتظار وعجز مزمن في ميزانيات بنك الائتمان، بل أنها لجأت مؤخراً إلى ضخ 300 مليون دينار كويتي "كاش" و500 مليون دينار من بيع سندات لمصلحة بنك الائتمان، وهي بذلك كمن يُغيث بقطرات ماءٍ قليلة عطشاناً تائهاً في صحراء مُترامية! إن هذا النوع من الحلول يُطلق عليه علمياً حلولاً رتقية لأنها غير مُستدامة، فأصل المشكلة لا يزال قائماً. المطلوب هو تغيير معطيات وعناصر المنظومة القائمة، والتي نلخصها بما يلي: عدد متزايد من الطلبات، ومؤسسة حكومية وحيدة مسؤولة عن تهيئة وتُجهيز وتُخصيص الأراضي، وبنك وحيد مسؤول عن إقراض المواطن ليُشيد مسكنه. هذه المنظومة السائدة منذ ستينيات القرن الماضي هي ببساطة غير قادرة على توفير السكن المطلوب بنفس وتيرة تزايد الطلبات. عناصر الحل المُستدام هي: ترشيد العدد المتزايد من الطلبات، وإيكال مسؤولية تهيئة وتجهيز وتخصيص الأراضي والتشييد إلى مطورين عقاريين يتنافسون فيما بينهم، وتهيئة البنوك التجارية، بما تملكه من أموال طائلة، للقيام بمهمة الإقراض، وإعادة تعريف دور المؤسسة العامة للرعاية السكنية ومسؤولياتها لتكون رقابية عوضاً عن كونها شركة مقاولات.أما بالنسبة لمشكلة عجز صندوق التأمينات الاجتماعية، فعناصر النظام القائم هي: عدد متزايد من المُتقاعدين، وإيرادات استثمارية محدودة، وتراجع مُطرد في قيمة معاشات المتقاعدين مع ارتقاع مستمر للأسعار. هذا كله أدى إلى عجز اكتواري يتجاوز 20 مليار دينار كويتي، وعدم كفاية معاشات المُتقاعدين في تلبية مُتطلبات حياة كريمة. هذه المنظومة التي نشأت في النصف الثاني من القرن الماضي هي اليوم غير صالحة. المطلوب هو منظومة جديدة تؤسس لمعطيات وعناصر مختلفة تأخذ في الاعتبار كفاية واستدامة وحوكمة صندوق التأمينات وإدارته، وذلك من خلال سياسات مُبتكرة يُمكن تحديدها بأسلوبين: الأول المُقارنة مع دول مُتميزة مثل صناديق آيسلندا وهولندا والدنمارك، والثاني المُقارنة مع المؤشرات الأولية "لمؤشر ميرسر الدولي لمعاشات التقاعد".الحلول لمشاكلنا المزمنة موجودة ومُمكنة، ولكنها تتطلب أولاً قياديين ومُستشارين أكفاء ومخلصين يُقدمون الرأي العلمي والعملي السليم، وثانياً رئيس حكومة مقداماً قادراً على اتخاذ القرارات الصعبة والدفاع عنها في وجه خصومه السياسيين.