في وقت يبدو أن الغرب، لاسيما دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يتجنب - حتى الآن - المواجهة العسكرية المباشرة في الحرب الدائرة منذ نحو 10 أيام ما بين روسيا وأوكرانيا، فإن لدى الغرب مجموعة من الخيارات الأخرى، التي ربما تغيِّر من معادلات أي حرب قادمة، كالعقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية والتكنولوجية وتأثيرات ما يُعرف بالقوة الناعمة، وغيرها من الأسلحة غير الحربية الأكثر ترجيحاً في حسم المعارك مما هو متعارف عليه تقليدياً، كالصواريخ والطائرات والقنابل!فلم تكد القوات الروسية تتقدَّم نحو الأراضي الأوكرانية، حتى بدأت دول الغرب مواجهة الموقف، من خلال خيارات غير عسكرية ذات طابع اقتصادي بالدرجة الأولى تُمثل قائمة طويلة من العقوبات، أبرزها: استبعاد أكبر البنوك الروسية من نظام سويفت المالي العالمي، الذي يربط بين 11 ألف مؤسسة مصرفية ومالية في 200 دولة، ويمثل الشريان الأساسي للمدفوعات والتحويلات المالية حول العالم، فضلاً عن وقف الاتحاد الأوروبي التعامل مع البنك المركزي الروسي، وتجميد نحو 350 مليار دولار من أصوله، إلى جانب تعليق ألمانيا المصادقة على تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" لإيصال الغاز الطبيعي الروسي إليها عبر بحر البلطيق. والغاز الروسي هو أحد العناصر التي تعوِّل عليها موسكو في الضغط على الغرب، لحاجة معظم دول أوروبا له، فضلاً عن إعلان نحو 36 دولة حول العالم منع الطائرات الروسية من التحليق عبر أجوائها.
الشركات تعاقب أيضاً
ولم تقتصر العقوبات الاقتصادية على سياسات الدول أو المنظمات الإقليمية، بل امتدت إلى المؤسسات شبه المستقلة، أو حتى الشركات الخاصة، مثل: إعلان الصندوق السيادي النرويجي، الأكبر في العالم، تجميد استثماراته في روسيا وبدء مسار خروجه بشكل كامل من البلاد، بالتوازي مع قرار شركة النفط البريطانية "بي بي" التخارج من حصتها، البالغة 19.75 في المئة، من عملاق النفط الروسي "روسنفت"، وكذلك إفصاح شركة شل أنها ستتخارج من كل عملياتها في روسيا، بما في ذلك مصنع ضخم للغاز الطبيعي المسال، وأيضاً شركة إكسون موبيل، التي قررت التخارج من روسيا، إلى جانب العديد من الشركات العالمية، كفورد وجنرال موتورز وتوتال إنرجي وهارلي ديفيدسون ومرسيدس وبي إم دبليو وماستركارد وبلاك روك وبوينغ، وعدد متزايد من الشركات الكبرى والعالمية، التي تنوَّعت خياراتها ما بين وقف الصادرات، أو تعليق الأنشطة لروسيا، أو التخارج منها.ليست إيران أو سورية
وإذا كانت العقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية خياراً مألوفاً في تعامل أوروبا والولايات المتحدة مع الدول ذات المصالح الاقتصادية المحدودة مع العالم الخارجي، كإيران أو سورية أو كوريا الشمالية، فروسيا ضمن مجموعة العشرين (g20)، وتُصنف كسابع أكبر اقتصاد في العالم، الذي سجل عام 2021 نمواً بواقع 4.3 في المئة، وإجمالي صادراتها للعالم تناهز 390 مليار دولار سنوياً، ويشكِّل النفط والغاز 16 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لروسيا، و42 في المئة من إيرادات موازنتها، كما أنها تمثل مصدراً أساسياً - وليس وحيداً - لصادرات القمح والحبوب عالمياً، وبالتالي فإن اقتصاد روسيا - كلما اشتدت المقاطعة والعقوبات - سيتعرَّض لهزات قد يكون أثرها أقوى حتى من المواجهات العسكرية.فاعلية سلاح الاقتصاد
ورغم قِصر مدة تطبيق العقوبات منذ 10 أيام، فإن بعض النتائج المباشرة تشير إلى فاعلية سلاح الاقتصاد في الحرب، فقد خسرت العملة الروسية (الروبل) نحو ثلث قيمتها، ورفع البنك المركزي الروسي سعر الفائدة أكثر من الضعف من 9.5 إلى 20 في المئة، إلى جانب قراره بوقف بيع السندات الحكومية، وهي أحداث تنبئ بارتفاع التضخم في روسيا في أول بيانات بعد بدء الحرب ستصدر خلال أسبوعين، ناهيك عن وقف التعاملات في بورصة موسكو طوال الأسبوع الماضي، في إجراء غير مسبوق لبورصة مصنفة ضمن مؤشرات الأسواق المتقدمة.لكن الأثر الأكبر للعقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية تمثَّل في خفض مؤسسات فيتش وموديز وستاندرد آند بورز تصنيفها السيادي لروسيا، بوصفها من فئة البلدان المعرَّضة لخطر عدم القدرة على سداد ديونها، مما يقوِّض فرصها لجذب أي استثمارات جديدة أو الحصول على قروض إضافية.دور القوة الناعمة
وبقدر ما للعقوبات والمقاطعة من آثار وتداعيات، فإن اللافت فعلاً في هذه الحرب، هو استخدامها على نحو مكثف لما يُعرف بالقوة الناعمة، من رياضة وفنون وإعلام وتطبيقات وتكنولوجيا، في حشد الرأي العام الدولي. فعلى الصعيد الرياضي، مثلاً، لم تتوقف العقوبات عند إقصاء منتخب روسيا لكرة القدم من المشاركة في كأس العالم (قطر 2022) وإيقاف كل المنتخبات الروسية الوطنية وأنديتها "حتى إشعار آخر" من المنافسات الدولية والقارية بالتوازي مع اتخاذ اتحادات دولية وقارية لرياضات أخرى عقوبات أيضاً مشددة تجاه روسيا أو حتى تجريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من منصبه كرئيس فخري للاتحاد الدولي للجودو أو "الضغط" على مالك نادي تشلسي الملياردير الروسي لبيع حصته في النادي، بل بلغ حد استخدام القوة الناعمة - ربما لمخاطبة رأي عام بعيد عن الحرب - إلى درجة استبعاد المنتخب الروسي وجميع الأندية الروسية من لعبة فيفا 2022 وفق إعلان الشركة المصدرة للعبة (EA Sports). فالقوة الناعمة بطبيعتها تستهدف حشد فئات من الرأي العام لا تتفاعل كثيراً مع أخبار الحروب والسياسة.صور وصدى
كذلك تنوَّعت استخدامات القوة الناعمة ضمن مساعي التصدي للحرب في أوكرانيا، من خلال صور صغيرة ذات صدى كبير، كوقف تطبيقات أبل لبرنامج غوغل ماب في أوكرانيا، لعرقلة تقدُّم القوات الروسية، مع حجب تطبيقات مؤسسات الأخبار الروسية من متجر أبل App Store مثل آر تي RT News وسبوتنيك Sputnik News، إلى جانب منع دار متروبوليتان للأوبرا في نيويورك مغنية روسيا التي أيَّدت حرب بوتين على أوكرانيا من المشاركة في حفلات الدار، كما أعلن بينالي البندقية، أحد أهم الملتقيات الثقافية في إيطاليا، حظر مشاركة أي جهة مرتبطة بالحكومة الروسية، وكذلك فعل تياترو ريال في إسبانيا عبر إلغاء عروض فرقة البولشوي الروسية الشهيرة، كما علق دليل المطاعم الفرنسي "ميشلان" تقييمه للمطبخ الروسي بعد الحرب على أوكرانيا.كيف نفهم الموقف؟
مسألة استخدام الغرب للعقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية لا يمكن محاكمتها من زاوية التناقض أو التمايز في التعامل مع أوكرانيا بشكل مغاير لمعاناة شعوب في دول أخرى، كفلسطين أو سورية، فهذا - رغم صحته - غير مفيد، بل لا نملك القدرة على تغييره أو التأثير فيه، إنما علينا كعرب وخليجيين تحديداً أن نفهم من ناحية قدرة الغرب على استثمار المصالح والابتكار في خدمة أغراضهم وتسويق مشاريعهم، وحتى خلط الأخلاقي بالمصلحي لتحقيق أهدافهم. ومن ناحية أخرى، النظر إلى طبيعة المصالح المتشابكة بين روسيا والغرب، خصوصاً في قطاع الطاقة والغذاء، والتي لم تكبح الأخير من اتخاذ موقف صلب في مواجهة روسيا، في رسالة بأن المصالح مهما تشابكت فإنها لا تبيح اتخاذ قرارات - فردية - خارج سياقات استقرار العالم وأمنه... وهذه رسالة يمكن قراءتها في التعامل مع مختلف العلاقات البينية بمنطقتنا العربية، خصوصاً في الدول التي تتشابك مع العالم بعلاقات ومصالح مهمة.