هل يقلب فرض العقوبات على روسيا النظام النقدي؟
دفع القتال الوحشي في أوكرانيا الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التألق الاستراتيجي المفترض الذي أظهره فلاديمير بوتين هو كل ما كنا نتوق إلى تحقيقه، وعلى الرغم من أن بوتين لا يتوقع استجابة عسكرية من حلف شمال الأطلسي لحربه، فإنه يبدو أنه استهان بقدرة الغرب على التضامن، لقد عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها بالفعل إلى فرض عقوبات اقتصادية ومالية صارمة غير مسبوقة ضد نظام بوتين، فقرار منع وصول البنك المركزي الروسي إلى الأسواق المالية الدولية (تجميد احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي فعليا) يعد ضربة قوية وموجعة.صحيح أن روسيا عملت على تنويع احتياطياتها بعيداً عن الدولار في السنوات الأخيرة، لكن بالنظر إلى حجم الاستجابة الدولية وأثرها المُباشر على الاقتصاد الروسي، لا يبدو أن هذه الاستراتيجية كافية للحفاظ على إمكانية الحصول على التمويل الذي تحتاج إليه، وما لم يكن لدى روسيا احتياطيات ضخمة من عملة الرنمينبي الصينية أو العملات الصادرة عن بلدان أخرى لا تزال تدعمها، فإن اقتصادها سيواجه ضغوطاً هائلة بلا شك.وبغض النظر عن استجابة روسيا، فإن السؤال المطروح الآن هو: ما الذي ستعنيه هذه الخطوات من الغرب بالنسبة للشؤون النقدية والنظام النقدي الدولي في المستقبل، فهل سنشهد زيادة تعزيز نفوذ الولايات المتحدة من خلال النظام الذي يهيمن عليه الدولار، أم ستفسح هذه الأزمة المجال أمام انقسام الشؤون النقدية والمالية الذي توقعه بعض المحللين منذ فترة طويلة؟
وبما أنني كتبتُ عن مستقبل الدولار شخصيا، لا يسعني أن أتذكر إعلانا سياسيا سابقا ساهم في رفع المخاطر النقدية العالمية بقدر الرهانات التي أثارها هذا الإعلان، إذ كان التأثير المباشر للعقوبات الروسية يهدف إلى تسليط الضوء على استمرار هيمنة الولايات المتحدة، لكنه قد يجبر أيضا العديد من الاقتصادات الناشئة على إعادة النظر في النهج النمطي لبناء احتياطيات النقد الأجنبي لحمايتها من الأزمات الاقتصادية. كانت الحاجة إلى مثل هذا التأمين الذاتي درسا مهما مُستفادا من الأزمة المالية الآسيوية بين عامي 1997 و1998، ولكن الآن، بعد أن فقد البنك المركزي الروسي القدرة على تحويل عملاته الأجنبية إلى الروبل الروسي، قد تطرح هذه الاستراتيجية بعض المخاطر الجديدة.وينطبق هذا بصفة خاصة على البلدان التي قد تتعارض طموحاتها مع المعايير السائدة في العالم الديموقراطي الغربي، كما هي الحال بالنسبة لتهديد ثم غزو بلد مُجاور أصغر حجما، فلا يحتاج الأمر إلى مفكر كبير لإدراك أن الصين ستشعر بالقلق والاستياء من جسارة الحرب التي تشنها روسيا ورد الفعل الغربي تجاهها، وإذا ما واصلت الصين تنفيذ إجراءات عسكرية ضد تايوان، فقد تتوقع هي أيضا أن تفقد قدرا كبيرا من قدرتها على الوصول إلى النظام المالي العالمي.لا يمكن للمرء أن يغفل عن السبب وراء جعل تجنب هذا الاعتماد الهائل على نظام العملة الذي يسيطر عليه الغرب اليوم أولوية قصوى بالنسبة لبعض البلدان، فإذا كانت عملة الرنمينبي الصينية والروبل الروسي والروبية الهندية والعملات الأخرى أكثر قابلية للتحويل بالنسبة للبلدان الأخرى، فقد يظهر نظام نقدي دولي مختلف تماما، وهو نظام لن تكون فيه أنواع العقوبات المفروضة على روسيا فعالة إلى حد كبير، لكن هذا السيناريو يظل مُستبعدا لسببين:أولاً، هناك سبب وجيه يدعو الصين إلى عدم بذل المزيد من الجهود لرفع قيمة الرنمينبي كعملة دولية، وفي العديد من المؤتمرات التي حضَرتُها حول النظام النقدي العالمي، كانت الرسالة المُوجهة من الخبراء الصينيين واضحة منذ فترة طويلة: يتلخص أسلوبهم المفضل لتحسين النظام الحالي في توسيع دور حقوق السحب الخاصة، وهي الأصول الاحتياطية لصندوق النقد الدولي. وهذا أمر منطقي خصوصا عند النظر إلى ما قد يترتب على تدويل الرنمينبي، ونظرا إلى أن الصين ستحتاج إلى السماح بقدر أكبر من الحرية في الاستخدام الخارجي لعملتها، فيتعين عليها التخلي عن قدرتها على الحفاظ على الضوابط الرأسمالية، وحتى الآن يبدو أنها غير مُستعدة للقيام بذلك، ومع ذلك، في غياب تحرير حساب رأس المال، لن ترغب أي دولة أخرى في الاحتفاظ باحتياطياتها من الرنمينبي.ثانياً، حتى لو استجابت قوة كبرى مثل الصين للأوضاع المتغيرة في الوقت الراهن من خلال تنفيذ إصلاحات مالية كبرى، فعليها تقديم ضمانات موثوقة فيما يتعلق بسلامة وسيولة الاحتياطيات المحتفظ بها خارج العملات الغربية، وإلا ما الذي قد يحمل أي بلد على المجازفة؟ومن غير المرجح أن تسعى الصين إلى تنفيذ أي إصلاحات تتطلب إدخال تغييرات جذرية على نموذجها الاقتصادي والتنظيمي، وإذا لم تتدخل الصين بفتح نظامها المالي، فمن شبه المؤكد أن يعقب ذلك تغييرات هيكلية في النظام النقدي العالمي، ومع ذلك لن تحدث التغييرات في الوقت المناسب لتجنيب روسيا عواقب سوء تصرف رئيسها.* جيم أونيل الرئيس السابق لـ«غولدمان ساكس» لإدارة الأصول ووزير الخزانة البريطاني السابق، وعضو في لجنة عموم أوروبا للصحة والتنمية المستدامة.«بروجيكت سنديكيت، 2022» بالاتفاق مع «الجريدة»