جلسة نقاشية جمعت عدداً من المثقفين والدبلوماسيين استمرت ساعات كان النقاش فيها يدور حول الحرب في أوكرانيا، وكان واضحاً الانقسام في الرأي بين من يقف مع بوتين ويبرر له "غزوته" من منطلق مصالح دولة عظمى وأمنها القومي وبين من يرى أن أوكرانيا دولة ذات سيادة ولا يجوز للروس أن يحتلوها، وبالتالي فهذا الرأي مناصر للغرب وللأوروبيين عموماً.

طرح السؤال على الحضور: ما المسطرة التي نقيس بها ما يجري على تلك الجبهة؟ هل هي مسطرة المبادئ والسيادة والشرعية الدولية أم مسطرة دول عظمى وبما تمثله مصالحها وأمنها القومي؟

Ad

المقارنة واقعية عندما يتم استدعاء التاريخ، فأميركا تقطع الأطلسي وتجول العالم، وتتدخل عسكرياً في الأنظمة وتغير شكل الحكم فيها وتحت مبررات واهية، وهكذا تفعل روسيا اليوم، فهذه الأقطاب لديها أجندة تتجاوز كثيراً ما يسمى المبادئ وحدود الكيانات والدول، من هنا كان الحديث، هل فعلاً تشكل أوكرانيا خطراً يهدد الأمن الروسي؟ وهل تملك أسلحة نووية؟ وهل أصبحت عضواً في الناتو؟

من يقرأ التاريخ وما سجلته ذاكرة الأحداث منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وولادة الجمهوريات الـ13 المستقلة (بين عامي 1990-1991) سيعثر على الجواب، فما يجري من قتال مدمر داخل المدن الأوكرانية لم يعد بالحدث أو الشأن المستجد، السؤال اليوم: هل يحقق بوتين شروطه ويحوّل هذا الجار إلى "تابع" ويتوقف عند هذا الحد، وبالقوة العسكرية والإكراه؟ أم أن التوسع الروسي سيتمدد ويضع أوروبا على طاولة المفاوضات بجعلها خالية من الأسلحة النووية؟

هناك من يعتقد أن مرحلة ما بعد أوكرانيا هي الأخطر والتي ستشهد تغيرات في "أحجام" القوة والوجود الروسي، لكن في كل الأحوال ستتجه أوروبا إلى زيادة الإنفاق العسكري وتتسلح بما تراه محققاً لأمنها والدفاع عنه وعلى حساب الخدمات والصحة والتعليم والرفاهية، والواضح أن الرسائل التي يود بوتين إرسالها إلى المحيط الجغرافي أتت بنتائج عكسية، فالدول "المحايدة" تماماً بدأت بالالتفاف والتوجه من جديد بالتخلي عن هذه السياسة والاستدارة نحو الغرب والانضمام إلى حلف الناتو.

المعركة القادمة ستكون تحت عنوان، مزيد من التسلح ومزيد من التقارب الأميركي– الأوروبي، ومزيد من العسكرة في الدول المحايدة، والبعض يدرك تماماً أن ما يفعله بوتين ليس وليد الساعة، أو أنها "نزوة" كما تصورها بعض الأجهزة الأميركية وتشكك في قدراته العقلية، كرجل واقعي أم لا، صحيح أن روسيا في قبضة سلطة أمنية مطلقة بعيدة تماماً عن الممارسة الديموقراطية، لكنها تقرأ جيداً "الجيوسياسية" والجغرافيا وموازين القوى في العالم، لقد خرجت روسيا من حدودها في عهد بوتين ولن تتراجع كما يجزم بعض المفكرين وخبراء الاستراتيجيات.

هل هناك وجه شبه بين ما فعله صدام حسين مع الكويت والنهاية التي أوصل بها العراق والمنطقة مع ما يفعله بوتين في أوكرانيا؟ العالم بعد أوكرانيا ليس كما قبله، فقد تحدث مفاجآت وتغييرات في التحالفات لسنا بعيدين عنها في العالم العربي، فانظروا إلى المحور الروسي– الصيني- الإيراني جيداً إذا خرج بوتين "منتصراً" في هذه الحرب، أما في حال "الهزيمة" فالصورة حتماً ستنقلب رأساً على عقب، وضعوا أمامكم قاعدة طرطوس ومطار حميميم في اللاذقية والوجود العسكري الروسي في البحر المتوسط، فهذا بارومتر الصعود أو التراجع الروسي في العالم لا المنطقة العربية فحسب.

الحرب لم تنته بعد ونحن في بداية الأسبوع الثاني والسؤال المهم، ليس أن تدخل الحرب، بل كيف تخرج منها وتحت أية مكاسب أو شروط، فالتفوق العسكري الروسي يحتاج إلى نصر حاسم وسريع لأن اقتصاده كما يراه الخبراء أضعف بكثير من قوته العسكرية، والتأخير بالحسم قد يقلب موازين القوى رأساً على عقب وتدخل روسيا بوتين في نفق مظلم وحرب مدن وشوارع تستنزف طاقتها، فلننتظر ونشاهد.

حمزة عليان