في خطوة تكسر "قيود التحريم" الدولية المفروضة عليها منذ نحو سبعة عقود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا النازية، أكد وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر أن مليارات اليوروهات المقرر استثمارها في الجيش الألماني، ستجعله الأقوى في أوروبا، وسط حديث متصاعد عن تغيير برلين لعقيدتها الدبلوماسية واستعدادها للعب دور عسكري نشط على الساحة الدولية التي يعاد تشكيلها على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا حالياً.

وقال الوزير الألماني في تصريحات لصحيفة "راينيشه بوست": "من مسؤوليتنا أن نجعل القوات المسلحة الأكثر فاعلية في أوروبا، وأيضاً من أجل حماية حلفائنا".

Ad

وفي محاولة لتهدئة المخاوف التي يمكن أن تتسبب بها الخطوة الأولى من نوعها منذ هزيمة بلاده بعد حرب كونية تسببت بمقتل نحو 51 مليون شخص على مستوى العالم، قال ليندنر، في تصريحاته التي نشرت أمس الأول: "بوضوح لا ينبغي استخدام قدرات الجيش أبداً، لكن يجب أن تكون إمكاناته بمنزلة رادع".

في سياق متصل، عارض ليندنر، الذي يرأس الحزب الديمقراطي الحر، إعادة تطبيق التجنيد الإجباري.

احترام الجيش

في موازاة ذلك، صرحت مفوضة شؤون الدفاع بالبرلمان الألماني "بوندستاغ إيفا هوجل" بأنها تلاحظ تزايد تقدير المواطنين الألمان لجيش بلادهم وجنوده.

وأشارت إيفا هوجل، في تصريحات نشرت أمس، إلى الاستعانة بجنود الجيش الألماني بعد الفيضانات في منطقة أرتال وإلى المساعدات الإدارية التي قدمها الجيش خلال تفشي فيروس كورونا المستجد وكذلك إلى عملية الإجلاء بالعاصمة الأفغانية كابول.

وقالت هوجل: "من خلال الحرب في أوكرانيا صار الأمر أكثر وضوحاً لكثير من الألمان حالياً أننا بحاجة ضرورية للجيش الألماني من أجل تأمين سلامنا وحريتنا".

وأضافت أن "الجنديات والجنود يشعرون بذلك أيضاً"، وقالت: "إنهم يشعرون أنه يتم النظر إليهم على نحو مختلف حالياً وكذلك يتم التعامل معهم بمزيد من الاحترام. يسعدهم ذلك ويحفزهم بالطبع. ويلاحظون أن مهام الجيش الألماني بالخارج تحظى أيضاً بمزيد من الاهتمام".

وأظهرت نتائج استطلاع أجراه معهد "إنسا" لقياس مؤشرات الرأي، الخميس الماضي، أن 47 في المئة من الألمان يؤيدون إعادة التجنيد الإجباري في الجيش.

مفاجأة وتغير

وجاءت تصريحات ليندنر وهوجل بعد إحداث المستشار الألماني أولاف شولتس "مفاجأة كبيرة" بوعده بزيادة هائلة في الإنفاق العسكري تصل إلى 100 مليار يورو إضافية للعام الحالي لـ"تجهيز الجيش" وبزيادة مستدامة في الميزانية الدفاعية بنسبة 1.5 في المئة إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بقفزة من 50 إلى 75 مليار يورو سنوياً، فيما يبدو أنه تغيير حقيقي في العلاقة الصعبة بين العالم السياسي الألماني والجيش.

ورغم أن الخطوة تأتي في سياق الرد على الغزو الروسي لأوكرانيا وتتيح لبرلين تمويل مشاريع التسلح الأوروبي الكبيرة، فإن أوساطاً غربية بالقارة العجوز تساءلت عما يعنيه شولتس بتحديث الجيش الألماني ولأي غرض يريد توظيفه.

ونشر موقع "ميديا بارت" الفرنسي مقالاً لتوماس شني، حاول فيه تحليل خطوة شولتس، وقال إنها تدخل في سياق وعد الحكومة الألمانية الجديدة بإحداث تغيير كامل في توجيه الجهود نحو الطاقات المتجددة، وإشراك برلين في ثورة عسكرية وإستراتيجية عميقة، مرتبطة بالطبع بغزو أوكرانيا، لكن برنامجها يتجاوز ذلك.

ويرافق هذا التحول، كما يقول الكاتب، تغير في تصدير الأسلحة، بحيث أكدت المستشارية تسليم أوكرانيا مباشرة ألف قاذفة صواريخ و500 صاروخ "ستينغر" و14 ناقلة جنود مدرعة، مع احتمال تسليم 2700 صاروخ أرض ـ جو من نوع "ستريلا" من مخزونات جيش ألمانيا الشرقية.

ولئن كانت صدمة ما سماه الكاتب "العدوان الروسي" وما سيسببه من اضطراب في التوازنات العالمية تفسر الطبيعة الجذرية للإعلان الألماني، فإنه يبقى أن نعرف ما الذي يعنيه شولتس بتحديث الجيش الألماني، أو "إعادة التسلح"، كما يفضل البعض وصفه به، ولأي غرض يريد ذلك.

وأوضح الكاتب أن هدف شولتس من الإعلان في البداية، هو إثارة صدمة تجعل الناس ينسون عدم تضامن ألمانيا في بداية الغزو مع كييف، بعد أن رفضت لأسابيع إغلاق خط أنابيب الغاز الألماني الروسي "نورد ستريم 2"، كما منعت، بسبب تاريخها، إرسال أي شحنة من الأسلحة الألمانية إلى أوكرانيا، إضافة إلى تباطؤ في استبعاد البنوك الروسية من نظام الدفع الدولي "سويفت" بسبب اعتمادها على الطاقة الروسية.

ويبدو أن التحول المعلن هو أيضا تغيير حقيقي في العلاقة الصعبة بين السياسيين الألمان والجيش، حين تعرضت القوات الألمانية للإضعاف من قبل من يقودونها ويمولونها، بعد دمج جيشي ألمانيا الشرقية والغربية، وتخفيض جيش ألمانيا الموحدة من 500 ألف إلى 180 ألف جندي، وكأنه تم تصميمه ليكون قوة تدخل عن بعد لخدمة الدبلوماسية وعمليات "حفظ السلام"، حتى ان عدد مركبات المشاة القتالية المدرعة خفضت من 4 آلاف إلى 350 وحدة، وأصبح أكثر من 20 في المئة إلى 40 في المئة من الطائرات المروحية خارج الخدمة.

الطلقة التحذيرية

ورغم ذلك، زادت ألمانيا من مشاركتها في العمليات الدولية غير السلمية، كما فعلت عام 1999، عندما أرسلت طائرات لقصف بلغراد مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لتشارك في حرب للمرة الأولى منذ عام 1945، لكنها اعتمدت خيار جيش محدد في العمليات المتعددة الجنسيات لتوفير النفقات.

ومثل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 "طلقة تحذير" أعادت قضية الدفاع عن الوطن إلى الظهور في برلين التي بدأت زيادة ميزانيتها الدفاعية شيئاً فشيئاً في ظل حديث عن خطاب استراتيجي لإعادة النظر في "الأفكار المنتشرة على نطاق واسع والمليئة بالأوهام حول دور الوسيط الألماني بين الشرق والغرب، أو حول دور خاص مزعوم لألمانيا في علاقاتها مع روسيا".