تحرص الدول عادةً على بناء اقتصاد متين ومنتج، حتى تتمكن من النهوض بمسؤولياتها المؤسسية، وتحقيق إشباع حاجات السكان فيها، بل وتحقيق عيشة رغيدة ورفاهية.ومثل هذا البناء الاقتصادي المتين يحتاج إلى قيادة سياسية تملك رؤية وقراراً، وتدعيم مفاصل الإنتاج الاقتصادي من بنوك ومؤسسات وشركات ومشروعات متكاملة تحقق نقلات وطفرات نوعية كل حقبة زمنية.
ومن لوازم نجاح ذلك أن تكون قدرات الدولة وإمكاناتها قادرة على خلق تكامل بين القطاعين الحكومي والخاص، وبتنوع حيوي، وتوفير بيئة النمو والنجاح، وزيادة نجاحات المشروعات والشركات الناجحة، ومعالجة ودعم المشروعات الخاصة الجادة والمنتجة وتذليل صعوباتها إن وجدت، وفي الوقت نفسه دمج المشروعات والشركات المتعثّرة والمتأرجحة لإعادة هيكليتها، وأخيراً تصفية أو تفليس أو إنهاء المشروعات التي لا جدوى من استمراريتها.غير أن الوضع المقلوب والغريب هو تلك السياسات الحكومية غير الحصيفة والبعيدة كل البعد عن بناء اقتصاد وطني متين، وهو ما تلمسه في العديد من الأمور، سواء في العجز عن خلق موارد رديفة للنفط وعوائده، باعتباره المورد الوحيد بما فيه من طفرات وتقلّبات، أو تبديد الفوائض المالية الناتجة عن مبيعاته، أو إجهاض المشروعات والشركات الحكومية الناجحة والتخلي عنها وبيعها بأبخس الأثمان، أو اتباع سياسات تنفيع وتكسُّب غير رشيد لمشروعات وشركات لا تسهم في الاقتصاد الوطني بشيء يُذكر، أو محاولة تنشيف مالية الدولة واحتياطياتها ونهبها، أو تيسير نهبها لشركات محددة وبصورة انتقائية، بسياسات تنفيعية غير رشيدة وليست سديدة.وسأركز في هذه المقال على نموذج من السياسات الاقتصادية غير الحصيفة، وهو إجهاض المشروعات والشركات الحكومية الناجحة والتخلي عنها وبيعها بأبخس الأثمان، تحت شعارات وهمية كاذبة، ألا وهي "الخصخصة" التي تهدف إلى تعظيم عوائد الدولة وتنويعها، وهو ادعاء وهمي لا وجود له وسقط واقعياً.فشركة مثل "الهواتف المتنقلة" التي كانت من أولى الشركات الحكومية التي تم بيعها تحت شعار التخصيص، ارتفعت قيمتها بصورة مذهلة وغير مسبوقة تجاوزت 40 ضعفاً، وفات على الحكومة جميع العوائد التي تحققها الشركة، والتي تتجاوز مئات الملايين، بل من المؤسف أن تستقر ملكيتها لملّاك غير كويتيين، رغم حساسية المعلومات والبيانات الشخصية المجمّعة لديها!!كما تم بيع شركة سان مارتن المملوكة لمكتب الاستثمار في لندن، بربحية طيبة، لكنّ قرار بيعها لم يكن - في تقديري - ينظر للمستقبل، ولم يكن موفقاً، ولذلك فإنها وصلت حالياً إلى قيم أضعاف القيمة التي بيعت بها، وكان قرار بيعها في التسعينيات ضمن موجة الخصخصة غير الرشيدة.كما بيعت شركة المخازن العمومية، بربحية عادية، ولعل ما تحققه من أرباح خيالية اليوم، لامست المليار، يبرهن على أن سياسة التخصيص كانت قصيرة النظر وبتخبّط اقتصادي غير حصيف.وهناك أمثلة عديدة للشركات المماثلة التي تم بيعها بقرارات غير رشيدة، وأثبتت الأيام عدم صحة خطوات الخصخصة، التي تدخل ضمن عمليات التنفيع أو قصر النظر، أو عدم كفاءة إدارة أصول الدولة وشركاتها.والخطورة اليوم أن عرَّابي الخصخصة ما زالوا يلحّون على بيع شركات ومشروعات رابحة أو واعدة، ويمكن أن تكون رافداً آخر لتعظيم عوائد الدولة، لكنّ هناك محاولة للانقضاض على شركات الدولة ومؤسساتها التي أثبتت الأيام نجاحها وحيويتها الاستراتيجية، مثل الخطوط الجوية الكويتية التي يُراد بيعها بثمن بخس، وشركة كاسكو التابعة لها، وشركة المطاحن الكويتية، والجمعيات التعاونية التي هي أصلاً خاصة، وتهيمن الحكومة على توجيهها من خلال الدعم، وهناك نوايا يتداولها الناس عن رغبة مخيفة لتخصيص المستوصفات والمدارس الحكومية، وإذا ما تم أي شيء من ذلك نكون قد دخلنا مرحلة اقتسام الدولة ووراثتها من المجموعات ذاتها التي تنهب المال العام وتقتات عليه.
أخر كلام
الخصخصة وإجهاض المشاريع الناجحة
09-03-2022