يواصل الرمز الوطني الراحل، د. أحمد الخطيب، في الحلقة الرابعة من كتابه "الكويت من الإمارة إلى الدولة" سرد ذكرياته، متحدثاً عن المتغيرات والظروف التي ميّزت الكويت وجعلتها بلداً يتسم بالانفتاح والمشاركة.

ويتناول الخطيب بدايات حياته العملية كطبيب جراح في وزارة الصحة وعلاقته برئيس الأطباء الإنكليزي، د. بري، حيث أقرّ بأن يكون راتب الخطيب أقل من رواتب الأطباء الآخرين، فتدخّل عبدالمحسن الزين وعبدالمحسن المخيزيم لدى الشيخ فهد السالم، فقرر أن يكون راتبه مثل رواتب زملائه الأطباء.

Ad

وعن زيارته للمرحوم الشيخ عبدالله السالم بعد تخرّجه، يتذكر الخطيب كيف استقبله الشيخ، وأنشد بيتاً من الشعر مرحّباً به، لأنه كان أول طبيب كويتي وخليجي.

ويستعرض بعض المواقف في قطاع الصحة والمشكلات التي كان يواجهها المستشفى الأميري، ثم مرحلة سفره لدراسة أمراض المناطق الحارة في بريطانيا، ولقاءاته بعدد من الشخصيات الكويتية هناك، وصحبته للشيخ سعد العبدالله خلال جولاته على عدد من المؤسسات الأمنية في أثناء دراسته في بريطانيا. وهناك يتذكر الخطيب محاولات تأسيس اتحاد للطلبة العرب في لندن، وبداية الاتصال بالاتحادات والقيادات الطلابية حتى ظهور نتائج الامتحانات، واضطراره للعودة إلى الكويت، إذ لم يتسنّ له حضور الاجتماع التأسيسي، وفيما يلي التفاصيل:

الكويت بوابة الانفتاح

لم تكن عودتي إلى الكويت عادية هذه المرة. عدت محملاً بمشروع قومي واعد كنت أرى فيه خلاص الأمة من الضياع والتشتت، ولربما يتمثل في تحقيقه الوصول إلى آمال هذه الأمة نحو التقدم والرفاهية. كذلك عدت هذه المرة بتجربة تنظيمية وسياسية ثرية، كنت أرى أنها تعني الكثير لنهوض الكويت، ذلك البلد الصغير الذي كنت قد تركته شاباً صغيراً، وعدت إليه كأوّل طبيب كويتي.

كانت الكويت في تلك الفترة بلداً تتحرك فيه الأشياء بصورة انسيابية وانفتاحية قل وجودها في محيطها الجغرافي. وبالتالي فقد كان للكويت سماتها المميزة وطابعها الخاص، حيث يبدو أن مكونات وعوامل عدة قد أسهمت وكونت تلك الشخصية المميزة للكويت، فموقعها الجغرافي مميز فهي تقع على رأس الخليج مجاورة لأكبر دُوَلِه السعودية والعراق وإيران، وكون مياهها البحرية عميقة جعلها مؤهلة لتكون ميناء بحرياً زاخراً وعامراً على مر العصور. أما في الجانب السياسي، فإن العائلة الحاكمة الكويتية جاءت باختيار أهل الكويت الذين سكنوا الكويت وأسسوها قبل مجيء آل الصباح، فهم ليسوا بعائلة غازية أو أنهم كانوا قد أخذوها عنوة، أو بحد السيف كما يتشدق بعض حكام المنطقة الذين أصبحت دولهم ملكاً خاصاً لهم أرضاً وشعباً. وكان وجهاء الكويت يشاركون الحاكم في اتخاذ القرارات المهمة مما جنّب الكويت الهزات، ودوام الاستقرار هو الشرط الأساسي لأي تطور بناء.

إضافة إلى ذلك فقد جعل موقع الكويت الاستراتيجي منها بلداً تجارياً لا ُيجارى، فهي بوابة الأسواق السعودية الشمالية، والعراق، وإيران. وكونها ميناء جذاباً جعل لها أسطولاً تجارياً كبيراًً، كان أكبر أسطول في الخليج، حيث وصل هذا الأسطول إلى الهند وسيلان واليمن وشرقي إفريقيا.

كان تعامل تجار الكويت مع العراق وتجاره بشكل أكبر، وكانت لهم أراض كثيرة وكبيرة لزراعة النخيل وتصدير التمور إلى الخارج وبيعه واستيراد ما تحتاج إليه المنطقة من مواد غذائية ومواد بناء.

ونتيجة لكل ذلك تكوَّن في الكويت مجتمع متفتح بعد أن احتك بالتطور الموجود في هذه الدول مما لم يتوفر لمجتمع الجزيرة المنعزل عن العالم، فكان هناك اهتمام بالتعليم للشباب والبنات، فالكويت من أولى دول المنطقة في فتح المدارس وتعليم البنات وإرسال البعثات الدراسية إلى الخارج والسماح للبنات كذلك بإكمال دراستهن بالخارج. كذلك فتحت الكويت أبوابها للكثير من المصلحين العرب للمجيء إلى الكويت والبقاء فيها أحياناً للتدريس والتثقيف.

وهكذا تضافرت تلك المكونات لتشكل المثلث لهذا الإنجاز الذي كان يقوم على:

- ميناء بحري عميق يخدم أكبر دول مطلة على الخليج وهي السعودية والعراق وإيران.

- تجار أذكياء ونشيطين يضرب المثل بنزاهتهم مما أكسبهم محبة من يتعامل معهم وثقتهم.

- بحارة أبطال كانوا يخاطرون بحياتهم لتسيير هذا الأسطول في أصعب الظروف وأخطرها، إضافة إلى بناة السفن من القلاليف المهرة الذين بنوا أساطيل الكويت، لتخلق التميز الذي ذكرناه.

ومما يؤسف له أن المؤرخين لم يذكروا الدور الأساسي للقلاليف في النمو التجاري الذي عاشته الكويت وجعل منها مركزاً تجارياً هاماً بفضل تلك السفن التي بناها هؤلاء الأساتذة والعمال المهرة من أبناء الكويت. لكم سعدت عندما اطلعت على الدراسة القيمة التي أعدها د. يعقوب يوسف الحجي في كتابه «صناعة السفن الشراعية في الكويت»، وأصدرها مركز البحوث والدراسات الكويتية، والمقدمة الجميلة للدكتور عبدالله يوسف الغنيم، التي يقول فيها بأن هذا «أصبح اليوم تراثاً تاريخياًً يجب أن توضح حقائقه أمام الأجيال المعاصرة واللاحقة».

يعدد الباحث أنواع السفن الشراعية حسب مهامها، والأساتذة (بناة هذه السفن) التي صنعوها، وجهزوها بالمعدات الفنية اللازمة للملاحة، وقائمة هؤلاء طويلة لن أنتقي منها أحداً حتى لا أظلم الآخرين.

ولعل ما أسلفنا ذكره قد جعل الكويت ملاذاً لبعض المثقفين العرب الذين آثروا الثقافة فيها، فكانوا يجدون فيها الترحيب والضيافة الكريمة من الكويتيين وشغف وجهاء الكويت بتعلم كل جديد.

ففي البداية زار الكويت كل من الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار وتلميذ المصلح الكبير الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد الشنقيطي والشيخ حافظ وهبة. وقد أثّروا كثيراًً في كل من: الشيخ ناصر مبارك الصباح والشيخ يوسف بن عيسى القناعي والسيد ياسين الطبطبائي. وعملوا على تأسيس المدرسة المباركية بعد أن تعهد تجار الكويت بتحمل المصاريف، كما عمل فرحان فهد الخالد على تأسيس الجمعية الخيرية وكان من أساتذتها كل من الشيخ محمد الشنقيطي والطبيب التركي أسعد أفندي.

أما الشيخ مبارك الصباح، حاكم الكويت، فلم تعجبه مواقفهم المؤيدة للخلافة الإسلامية العثمانية، والمعادية للإنجليز، فأبعد كلاً من الشنقيطي ورشيد رضا. وكان عهد أحمد الجابر أكثر انفتاحاً، وربما كان مرجع ذلك هو التأييد الذي حصل عليه من قبل رجالات الكويت، ليكون أميراً على الكويت من بين منافسيه من حمد المبارك الصباح، وعبدالله السالم الصباح، وقربه من الشيخ عبدالله الجابر الصباح المعروف عنه حبه للأدب والفنون وقربه من الكويتيين.

ففي عهد أحمد الجابر تم افتتاح المدرسة الأحمدية عام 1939، باقتراح من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وكان من أساتذتها كل من الشيخ عبدالعزيز الرشيد وعبدالملك الصالح المبيض والشيخ حافظ وهبة، والشيخ محمد الخراشي المصري.

وأنشئت كذلك المكتبة الأهلية بمبادرة وتمويل من التجار، وتشكل مجلس إدارة لها بإشراف رجب السيد عبدالله الرفاعي وتمويله وإدارته وعضوية كل من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ حافظ وهبة وسليمان العدساني ومشعان الخضير وعبدالحميد الصانع وعبدالرحمن البحر وسيد علي سيد سليمان.

كذلك أنشئ النادي الأدبي برئاسة الشيخ عبدالله الجابر الصباح.

وفي تلك الفترة جرت انتخابات لأول مرة للمجلس البلدي من قبل خمسين شخصاً من قبل وجهاء البلد وتجارها، انتخبوا 12 عضواً، وأعطيت رئاسة الشرف للشيخ عبدالله الجابر الصباح، وبعد انتهاء فترته، جرت انتخابات أخرى إلا أن هذا المجلس أصيب بالشلل بسبب التدخلات في إسقاط عضوية البعض لمصلحة من سقط بالانتخابات.

وبفضل بعض الشباب المتنورين وعلى رأسهم عبدالله حمد الصقر ومحمد أحمد الغانم نظمت حملة لتحديث التعليم بالكويت ولانتخاب مجلس للمعارف يشرف على التعليم، واستطاع الشيخ عبدالله الجابر الصباح إقناع الشيخ أحمد الجابر بالموافقة على ذلك على أن يتحمل التجار التكاليف المالية كافة.

فكان أن تمت دعوة خمسين شخصاً من رجالات الكويت لانتخاب 12 عضواً، ونجح في هذه الانتخابات كل من: عبدالله حمد الصقر والسيد علي السيد سليمان الرفاعي ومشاري الحسن ومحمد أحمد الغانم ونصف يوسف النصف وأحمد خالد المشاري وسلطان إبراهيم الكليب ويوسف عبدالوهاب العدساني، واختير الشيخ عبدالله الجابر الصباح رئيساً فخرياً للمجلس.

واستنجد المجلس بمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني لإرسال مدرسين إلى الكويت، فأرسل أربعة من خيرة المدرسين الفلسطينيين إلى الكويت وهم أحمد شهاب الدين مديراًًً وجابر حديد ومحمد المغربي ومحمود خميس... وتبعهم في العام التالي كل من عبداللطيف الصالح ومحمود نجم وفيصل الطاهر.

وهكذا بدأ التعليم الحديث في المدرسة المباركية أولاً ثم المدرسة الأحمدية. وفي السنة التالية أنشئت المدرسة القبلية.

هذا المجلس المنتخب لم يعمر طويلاً لفقد الانسجام بين أعضائه فاستقال. وجرت انتخابات ثانية أسفرت عن نجاح ستة أعضاء هم أحمد الحميضي، أحمد المشاري، نصف اليوسف، سلطان الكليب، عبدالرحمن البحر، وعبدالمحسن الخرافي، وعُيِّن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مديراًً للمعارف.

هذه العلاقات التجارية والثقافية وطدت العلاقة بالقوى الحية في الهلال الخصيب وأشاعت الجو القومي التحرري في الكويت، مما يفسر مساهمات أهل الكويت في دعم هذه الدول في معاركها ضد الاستعمار كمثال التبرع لثورة 1936 في فلسطين بمدها بالمال والسلاح كذلك.

وقد كشف شفيق جحا في كتابه «الكتاب الأحمر» أو ميثاق الحركة العربية السرية معلومات عن نشاط هذه الجمعية، التي كان عضواً بارزاً فيها، بأنها نشأت من مجموعة من العرب القوميين في كل من لبنان وفلسطين وسورية والعراق والكويت بهدف العمل على تحرير المنطقة من الاحتلال الأجنبي ومقاومة الهجمة الصهيونية على فلسطين. وكان يترأس هذه المجموعة د. قسطنطين زريق إلا أنه ترك الرئاسة بعد أن تعرضت المجموعة للملاحقة من قبل السلطات الفرنسية، فانتقل نشاطها إلى العراق برئاسة كاظم الصلح. وساهمت هذه المجموعة في ثورة فلسطين عام 1936 وكان لها نشاطات قومية مهمة في كل من العراق وسورية ولبنان لا مجال لذكرها هنا، إلا أن ما لفت نظري هو وجود أسماء كويتية عديدة في هذا التنظيم القومي السري. ففي قائمة من نحو 65 شخصية تم العثور عليها في أوراق عند كاظم الصلح وهي ليست القائمة الكاملة ظهرت الأسماء التالية من الكويتيين: عبدالله حمد الصقر، عبداللطيف ثنيان الغانم، خالد العدساني، سرحان السرحان، يوسف أحمد الغانم، محمد الغانم، أحمد السقاف. خليفة الغنيم لم يأت اسمه في القائمة ولكنه أسرَّ لي بذلك قبل وفاته، مما يفسر مساعدة بعض هؤلاء لنا في نشاطنا القومي في الكويت دون أن نعرف السبب الحقيقي والخلفية القومية لهؤلاء، ويفسر لي سؤال علي ناصر الدين، وكان سكرتيراً لعصبة العمل القومي في لبنان، عند أول لقاء معه عن بعض الأسماء الكويتية، مما أثار استغرابي كيف تعرّف عليهم؟ وهكذا يتضح أن بعض رجالات الكويت المستنيرين كان لهم دور مهم في مجال العمل القومي العربي في تلك الفترة لا نعرف مداه حتى الآن بسبب سرية العمل الشديدة، فقد كان الأعضاء لا يعرف بعضهم بعضاً حتى الإخوان لا يعرفون أنهم في حزب واحد.

مبادرة شفيق جحا ربما تشجع من بقي منهم على قيد الحياة في إكمال الصورة عن هذه الفئة الرائدة من القوميين العرب، وأعتقد أن النجاحات الكبيرة التي حصلت في الكويت هي بمجهود هؤلاء بصورة رئيسية.

إذاً، يتضح أن طبيعة أهل الكويت هي حب الانفتاح والتطور مما جعل الكويت أرضاً خصبة للعمل القومي الإصلاحي، والشاهد على ذلك هو تميز الكويت من بقية دول مجلس التعاون ومقاومة كل حاكم حاول أن يشذ عن هذه القاعدة، فحركة الإصلاح كانت قائمة ومستمرة منذ أن أخل مبارك الصباح بهذه القاعدة. بدأت بتمرد هلال المطيري وشملان بن علي وإبراهيم بن مضف 1911، بسبب كثرة حروبه الفاشلة التي كانت نتيجتها الإضرار بموسم الغوص لانشغال رجال الكويت بهذه الحروب العبثية.

ثم جاءت محاولة أول مجلس عام 1921 في عهد أحمد الجابر التي لم تستمر طويلاً والتي جاءت بعد وفاة سالم الصباح. فقد اجتمع بعض الوجهاء في ديوان ناصر البدر واتفقوا على العمل على الإصلاح. ووقعوا على عريضة تضمنت المطالب التالية:

1 - إصلاح بيت الصباح كي لا يجري بينهم خلاف في تعيين الحاكم.

2 - إن المرشحين لهذا المنصب هم أحمد الجابر وعبدالله السالم وحمد المبارك.

3 - إذا اتُّفق على أحدهم يُرفع الأمر للحكومة للتصديق عليه.

4 - يكون هذا الشخص رئيساً لمجلس الشورى.

5 - ينتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شؤون البلاد على أساس العدل والإنصاف.

التواقيع:

محمد بن شملان

مبارك محمد بورسلي

جاسم محمد أحمد

سالم علي بوقماز

ناصر إبراهيم.

وأصبح أحمد الجابر الصباح حاكماً.

وتشكّل كذلك مجلس للشورى ضمّ كلاً من:

• حمد العبدالله الصقر • يوسف بن عيسى القناعي

• عبدالعزيز أحمد الرشيد • أحمد الفهد الخالد الخضير الخالد

• عبدالرحمن خلف النقيب • خليفة بن شاهين الغانم

• هلال فجحان المطيري • شملان بن علي بن سيف

• إبراهيم المضف • مرزوق الداود البدر

• أحمد الصالح الحميضي • مشعان الخضير الخالد

كذلك جرت انتخابات مجلس بلدي في الثلاثينيات وانتخاب مجلس المعارف كذلك، ثم المجلس التشريعي عام 1938 الذي انتهى بشكل دموي. ولا بد من الإشارة إلى ما عاناه عبدالحميد الصانع من سجن وتعذيب عندما اكتشف بأنه كان وراء المقالات التي تصدر في بعض الصحف العربية منتقدة الأوضاع المتخلفة في الكويت.

كانت هذه هي السمات العامة للمجتمع الكويتي، إلا أنه عند رجوعي إلى الكويت عام 1952 كانت هناك مستجدات كثيرة حصلت أدت إلى تطور مهم في العمل السياسي، ولربما كان أولها وأهمها مجيء عبدالله السالم إلى الحكم عام 1950، الذي كان الرئيس الفخري لمجلسَي 1938 و 1939، وبذلك كان متعاطفاً مع التوجه الديمقراطي الإصلاحي بشكل عام، وقد كان مثقفاً بالنسبة إلى مقاييس ذلك الوقت وقد تتلمذ على يد الشيخ يوسف بن عيسى وأحب الأدب وبالأخص الشعر، وكذلك كان يتمتع بذكاء فطري.

ومنذ بدء عهده ظهرت الأندية الرياضية والثقافية وكذلك الصحف وشهدت الكويت نشاطات ثقافية كثيرة.

أما ثاني تلك المستجدات فقد تمثل في بدء عودة الخريجين الكويتيين من الخارج وهم يحلمون بخدمة بلدهم للمساعدة على تقدم البلد وتطوره لمجاراة الدول التي تعلموا فيها.

وتمثل ثالث تلك المستجدات في تدفق العرب إلى الكويت بعد أن زادت مداخيل الكويت بشكل كبير، بسبب تغيير بنود اتفاقية النفط، وما ترتب على ذلك من البدء في خطة تنمية وإعمار كبيرة، فجاءت أعداد كبيرة من الأساتذة والمهندسين والفنيين وغيرهم، ولاسيما من الفلسطينيين الذين أخرجوا من وطنهم بعد نكبة فلسطين عام 1948، وهم مسيسون بطبيعتهم بسبب صراعاتهم الطويلة مع الاحتلال الإنجليزي والمشاريع الصهيونية للاستيلاء على وطنهم.

أما المستجد الرابع فقد تمثل في بداية مرحلة التحرر العربي العامة من الاستعمار المتلازمة مع موجة التحرر العام في العالم كله.

وتمثل المستجد الخامس في ذلك المد القومي الجارف الذي ساد المنطقة العربية كلها، يضاف إليه تلك الشحنة الهائلة التي أتت بها الناصرية ليتعاظم هذا الزخم القومي بشكل كبير، خصوصاً بعد تأميم قناة السويس والمواجهة مع بريطانيا واضطرارها للانسحاب من القناة ثم من المنطقة.

ولربما كان المستجد السادس قد جاء نتيجة منطقية لما سبق ذكره، وتمثل في ظهور بعض الأحزاب السياسية العربية في الكويت مع مجيء الجاليات العربية وتأثر النخب الكويتية بهذه الأحزاب مما عمّق الوعي السياسي في الكويت.

ولا بد من القول هنا بأن تضافر تلك المستجدات وتفاعلها بعضها مع بعض كان له فعل إيجابي لرفد عملية الإصلاح في الكويت، إلا أن تدفق النفط وأمواله كما يبدو قد أضرّ بالمعادلة التقليدية التي كانت وراء تطور الكويت، فبعد أن كان النظام يعتمد في تمويله على نشاطات أهل الكويت المتعددة وخصوصاً مجموعة التجار الكبار - وجهاء البلد - أصبح هؤلاء التجار يعتمدون على النفقات الحكومية بشكل أساسي، بعد أن ضربت تجارة اللؤلؤ من قبل اللؤلؤ الصناعي الياباني، وضربت التجارة بالتوسع في استعمال البواخر بعد انتهاء الحرب التي قضت على السفن الشراعية وصناعتها. وهكذا فإن النظام لم يعد يشعر بحاجة إلى دعم التجار له بل بالعكس أصبح التجار أسرى لسلطة النظام، وبالتالي ضعفت المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وتمركزت السلطة بيد النظام.

إلا أنه ومع ضمور تأثير التجار في اتخاذ القرار، ظهرت شريحة كبيرة ومؤثرة سياسياً على الساحة تمثلت بالمستجدات التي ذكرت سابقاً، ووجدت هذه القوى الجديدة حليفاً قوياً لها من التجار الوطنيين الذين ساهم بعضهم في العمل بشكل علني، أو بشكل غير مباشر ليتجنبوا غضب السلطة التي كانت تسبب لهم مضايقات شديدة في أعمالهم.

عبدالله السالم والإنجليز

لم يكن الإنجليز يحملون الكثير من الود لعبدالله السالم، وكانوا قد ترددوا في الاعتراف به ولم يكن ذلك خافياً عليه، وأعتقد أن استعجاله بإدخال إصلاحات واسعة في بداية عهده كان لمواجهة الضغوط الإنجليزية أيضاً، فكلما زادت شعبيته زادت قدرته على مواجهة الإنجليز ومطالبهم وحدَّ من تطلعات غيره من أفراد العائلة في طرح نفسه بديلاً له.

وعندما أدرك الإنجليز صعوبة الوقوف في وجهه، تقدموا بطلب تعيين مستشارين إنجليز له يشاركونه في إدارة الدولة على شاكلة الوضع في البحرين، مما أحدث انزعاجاً شديداً للعائلة عبّر عنه لي بوضوح المرحوم الشيخ خالد عبدالله السالم عندما كنت أدرس في لندن عامي 1953-1954، وكان هو موجوداً هناك. وقد كان الإنجليز قد وضعوا شروطاً على عبدالله السالم لكي يعترفوا به حاكماً كما يورد ذلك الدكتور غانم النجار في كتابه «مدخل للتطور السياسي في الكويت»، وكان من أبرز تلك الشروط ضرورة قيام عبدالله السالم بتسمية ولي للعهد، وإبعاد المستشار الخاص عزت جعفر بالإضافة إلى تعيين مستشارين إنجليز. إلا أن عبدالله السالم رفض تلك الشروط وعدّها تدخلاً لا داعي له، ووافق فقط على تعيين «خبراء» لا مستشارين (خشية من تكرار تجربة بلغريف في البحرين)، وأصر على أن يتم التعاقد بين أولئك الخبراء وحكومة الكويت بعقود واضحة ومحددة المدة، وأن يكون من حق حكومة الكويت إنهاء تلك العقود متى شاءت. ولم يجد الإنجليز سبيلاً إلا التجاوب مع موقف الشيخ عبدالله السالم، وهكذا أقرت الاعتراف به حاكماً على الكويت وتم ذلك في احتفال كبير في 25 فبراير 1950، وهو التاريخ الذي اعتمدته الكويت حتى يومنا هذا عيداً وطنياً للكويت.

كل هذه الأمور مجتمعة شكلت معالم هذه المرحلة المهمة من تاريخ الكويت.

إن تفاعل كل هذه العناصر أدى إلى استقلال الكويت ووضع دستور 1962. لذلك يأتي تاريخ هذه المرحلة، مرحلة الخمسينيات، ومعرفة أحداثها مسألة في غاية الأهمية، وهذا ما يفتقر إليه تاريخ الكويت. أحداث هذه الفترة يعرفها من ساهم فيها، وما ذكر في الصحف عنها وما كتب لا يشفي غليل من يريد أن يعرف كل الحقائق. كذلك لم يكتب أحد عن هذه الفترة المهمة ممن شاركوا في أحداثها لعفة في أنفسهم أو لدرء الإحراج عنهم ممن قد لا تعجبه الحقائق سواء كانوا من النظام أو خارجه، وترك المجال لبعض الدجالين والمرتزقة ليكتبوا تاريخ هذه المرحلة ليجيّروا كل ما حصل من تقدم لمصلحة النظام متناسين دور الشعب الكويتي المشرّف والمهم فيما تحقق من مكاسب.

العمل في وزارة الصحة

لمّا كنت قد انضممت أثناء الدراسة إلى بعثة من وزارة الصحة أو كما كانت الوزارات تسمى آنذاك، دائرة الصحة، فقد كان طبيعياً أن أباشر عملي لدى دائرة الصحة التي كان يترأسها الشيخ فهد السالم، الذي جمعتني به علاقة غريبة، فكانت كما يقال بين مد وجزر، وإن كانت في غالبها جزراً، كما سنأتي على ذلك لاحقاً.

وقد طلب مني فهد السالم رئيس الصحة بعد رجوعي إلى الكويت، أن أذهب في الصباح الباكر إلى عبدالله السالم للسلام عليه وتوديعه، لأنه كان سيسافر بسفينته إلى البحرين، فاعتذرت عن ذلك لأني لا أستطيع الاستيقاظ قبل الفجر، بسبب عدم وجود ساعة منبهة لدي، فقال: سيمر عليك مدير الصحة علي الداود. وفعلاً ذهبت معه وأخي عقاب، فقدمني فهد السالم لعبدالله السالم قائلاً: هذا أول طبيب كويتي وأول طبيب في الخليج. وأجلسني بجواره فارتجل عبدالله السالم هذا البيت:

وينك تشوف اعيالك يا الخطيب

واحد معلم والثاني طبيب

إلا أنه حتى يرفع الإحراج عن د. بري رئيس الأطباء الموجود في القاعة ناداه قائلاً: تعال يا دكتور بري. وأجلسه بجانبه فهو وظيفياً رئيس الأطباء وبالتالي رئيسي أنا فلا يجوز أن أتقدم عليه، كما أراد فهد السالم الذي يكره د. بري.

عملت في المستشفى الأميري، وكان فهد السالم رئيساً لدائرة الصحة، والدكتور بري وهو بريطاني رئيساً للأطباء، والمستشفى الأميري هو المستشفى العام الوحيد للدولة في ذلك الوقت.

خصص بري لي راتباً يساوي نصف الرواتب التي تعطى للأطباء الآخرين لكوني متخرجاً جديداً. إلا أن ذلك لم يعجب كلاً من عبدالمحسن الزبن وعبدالمحسن المخيزيم، اللَّذين كانا يعملان في الصحة، وأخبرا فهد السالم بذلك، فقرر أن يصرف لي راتباً مثل بقية الأطباء. ولم تكن علاقتي بالدكتور بري جيدة، لأنني وجدت نفسي، وأنا الشاب القومي مرؤوساً من قبل طبيب من دولة استعمارية، وما كنت أخفي مشاعري نحوه، مع أنه كان يؤكد لي دائماًً بقوله: «أنا لست إنجليزياً، أنا من ويلز، أنا بدوي مثلكم». وفي أثناء إحدى الجولات التفتيشية الأسبوعية التي كان يجريها بري في المستشفى لتفقد العمل، مر على غرفة الأطباء، وسلم ورددنا السلام، إلا أنني بقيت جالساً ولم أقف له مثل الآخرين. فما لبث أن أرسل إليّ سكرتيره لاحقاًً، يطلب مني مقابلته بعد الدوام لأنه استاء من تصرفي. إلا أنه كما يبدو فكر في الموضوع وعواقب اتخاذ أي إجراء ضدي، فأنا أول طبيب كويتي وتعاطف فهد السالم معي كان واضحاً ولم تكن بين فهد السالم وبري أية مودة. لذلك أرسل سكرتيره إليّ ثانية ليقول: لا داعي لمقابلته.

لاحظت النقص في ما يقدم من خدمات طبية وقلة الأسرّة المطلوبة قياساً إلى تعداد سكان الكويت، وانقطاع الصلة بين الأسرة الطبية. وضعت دراسة عن الوضع، وخطة للتطوير والتوسع وأعطيتها للصديق خالد النصرالله سكرتير فهد السالم ليسلمها له، فعاتبني فهد السالم على ذلك، وقال: أنت تتصل بي مباشرة وليس عن طريق واسطة. كذلك طلبت من الدكتور بري أن ينظم لقاءً أسبوعياً لجميع الأطباء لاستعراض العمل وتقديم الاقتراحات ، فوافق على ذلك، ولما جاء اللقاء أخذ يتصرف بطريقة متعجرفة وفيها إساءة للأطباء، ويبدو أن عمله في الجيش أثناء الحرب جعله يتصرف كضابط لا طبيب وكان الاجتماع الأول والأخير.

أما المذكرة التي قدمتها إلى الشيخ فهد فقد أهملت تماماً، وبدأت أتضايق من جو العمل. وبعد أقل من سنة وجدت أنني لا أستطيع أن أؤدي رسالتي الإنسانية في جو كهذا، فقررت ترك الصحة، ولكن المشكلة كانت في أنني طبيب جراح ولا بد من وجود مستشفى للعمل فيه، وذلك غير موجود وليست عندي القدرة المالية على بناء مستشفى. ورفضت بعض العروض من بعض التجار الطيبين للمساهمة في بناء مستشفى خاص، لأن الفكرة لم تعجبني والتاجر مهما كان طيباً ربما يغريه الربح، وهذا قد يسبب لي مشكلات معهم ومع مرضاي أنا بغنى عنها، فقررت أن أغير اختصاصي إلى طبيب أمراض باطنية فقدمت طلباً لجامعة لندن لدراسة أمراض المناطق الحارة، وفوجئت بأن جاءني الرد بالقبول بعد أسبوع واحد، وقد فهمت من الجامعة هناك أنهم يعاملون خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت معاملة خاصة لأنهم مميزون وينجحون من أول مرة، وهذا ما حصل لي فعلاً.

كان هناك طلبة كويتيون يدرسون في لندن أقمت معهم علاقة أخوية; فقد كان هناك جاسم القطامي ويعقوب الحميضي وعبدالرزاق العدواني ومحمد خلف وعبدالوهاب محمد وخالد الخرافي وسعد السلطان وغيرهم. كذلك كان هناك بعض أفراد الأسرة، سعد العبدالله وأخوه المرحوم خالد ومبارك عبدالله الجابر. كنا نلتقي عصر كل يوم في فندق في بيكادلّي لشرب الشاي (أي ديوانية مصغرة)، واستأجرت مع جاسم القطامي بيتاً بعشرة جنيهات في الأسبوع. ويوم الأحد يكون الغداء عندنا، المرق يطبخه يعقوب الحميضي المختص بطبخه بطريقة لذيذة والمشخول (الأرزّ الأبيض) يطبخه محمد خلف. وفي كثير من الأحيان يشاركنا سعد العبدالله في الغداء. وكان يقوم بدورة تدريبية في الشرطة ويحرص على أن أكون معه عند زيارة بعض السجون والمؤسسات الأخرى فأتجاوب معه تشجيعاً له لاهتمامه بعمله واستقامته وتوقعي بأنه سوف يطور عمل الشرطة في الكويت.

لم يمكث جاسم القطامي طويلاً، فقد أنهى دورته وعاد إلى الكويت ثم عُيِّن مديراً للشرطة فيها بعد تدخّل سعد العبدالله الذي أخبرني بذلك والسرور باد عليه.

حضرت أنا ويعقوب الحميضي نشاطاً طلابياً عربياً نظمه العراقيون في لندن فلم تعجبنا الأجواء، إذ كان هناك صراع بين مجموعات عراقية بعثية وقومية وشيوعية، فقررنا أن نعمل شيئاً لأن هناك طلبة عرباً كثيرين وأمامهم مهمات قومية يمكن أن يساهموا فيها لكسب الرأي العام الطلابي الإنجليزي، فقررنا أن نعمل على إنشاء اتحاد للطلبة العرب في المملكة المتحدة. كانت هناك مجموعات طلابية كثيرة في الجامعات والأندية العربية المتعددة، فاتصلنا ببعض الطلبة الذين نعرفهم فوجدنا تجاوباً مع طرحنا وبالذات أعضاء النادي السوداني الذين أبدوا استعدادهم لاستضافة الاجتماع التأسيسي. وفي الفترة بين تقديمي الامتحان وظهور النتائج قمت بجولة واسعة على معظم الجامعات البريطانية والأندية العربية في إنجلترا واسكتلندا وويلز ولقيت تجاوباً كبيراًً، وتم الاتفاق على عقد الاجتماع التأسيسي في النادي السوداني.

ثلاثة من رجالات الكويت كانوا يترددون على العيادة للعلاج هم، صالح العثمان وزير الدفاع في مجلس الشورى عامَي 1938-1939، ومحمد العجيري ومطيران الحبشي من قرية الجهراء. هؤلاء، رحمهم الله، كانوا أثناء الأزمات السياسية في الكويت يدلون برأيهم ويقدمون اقتراحاتهم، كل على حدة، مما ساعد في توسيع فهمي لاتخاذ القرارات المناسبة، فكان لا بد من ذكر أفضالهم عليّ.

عندما ظهرت النتيجة ونجحت في الامتحان اضطررت للعودة إلى الكويت، وفاتني حضور هذا الاجتماع المهم الذي أدى إلى قيام اتحاد للطلبة العرب في المملكة المتحدة.

وحين عدت إلى الكويت، اتضح لي جلياً أن النشاط السياسي لم يكن متوقفاً، فقد كانت العناصر الوطنية والقومية تعمل بنشاط للاستفادة من جو الانفتاح الذي وفره عبدالله السالم، والسماح بفتح الأندية وإصدار الصحف.

باشرت بتشكيل تنظيم الحركة القومية وكانت الخلايا الأولى تتشكل من الذين عملت معهم في السابق ومن الناشطين الجدد، وتركز العمل على الخريجين والمعلمين وطلبة الثانوية وعمال النفط وصغار التجار، وهكذا كان العمل يشمل جميع شرائح الشعب الكويتي دون استثناء، حتى إن بعض أبناء الأسرة الحاكمة كان يتعاطف مع الكثير من آرائنا في الفترة الأولى أخص منهم بالذكر كلاً من عبدالله السالم وجابر الأحمد وسعد العبدالله، مما سوف يأتي ذكره لاحقاًً.

كنا استمراراًً للنهج الوطني الديمقراطي والقومي الذي صبغ حياة الكويتيين منذ القدم، فنحن لم نطرح خطاً جديداً غريباً على المجتمع الكويتي لنكون نبتة غريبة تجعل المواطن الكويتي يقف ليتعرف على شيء جديد. ما قدمناه، حقيقة، هو تطوير هذه المفاهيم وتحديثها وجعلها تواكب المستجدات التي حصلت في الكويت والعالم.