بينما يُكثّف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هجومه ضد أوكرانيا، يُعبّر عدد متزايد من المحللين العسكريين وخبراء السياسة الخارجية الأميركيين عن قلقهم من زيادة جرأة الصين واتخاذها روسيا قدوة لها لمحاولة الاستيلاء على تايوان بالقوة، حيث يقول إيان جونسون، خبير في الشؤون الصينية في مجلس العلاقات الخارجية: «إذا تمكنت روسيا من السيطرة على أجزاء من أوكرانيا أو إنشاء نظام تابع لها هناك وصمدت في وجه العقوبات الاقتصادية، فقد يقتنع القوميون في الصين بقدرتهم على القيام بالمثل في تايوان»، كما أدلى النائب الجمهوري عن ولاية تكساس، مايكل ماكول، بتصريح مشابه في مقابلة معه الشهر الماضي، وعبّر الجنرال المتقاعد جاك كين عن الرأي نفسه، فقال إن الرئيس الصيني شي جين بينغ «يرصد ضعفاً واضحاً في الغرب وقد يفيده هذا الوضع لتحقيق أهدافه الوطنية أيضاً».يتابع رئيس الصين أحداث أوكرانيا حتماً، لكن حساباته المرتبطة باستعمال القوة ضد تايوان تتأثر بالعوامل المحلية لا الخارجية في المقام الأول، حيث يفكر القادة الصينيون اليوم بإعادة توحيد بلدهم مع تايوان بالطرق المسلّحة أكثر مما فعلوا في أي مرحلة من آخر خمسين سنة، لكن لن يُرسّخ شي جين بينغ سيطرته على الجزيرة إلا إذا تأكد أولاً من قدرة جيشه على تنفيذ غزو برمائي ناجح وإذا اقتنع بأن توقيت العملية ينعكس إيجاباً على مسيرته السياسية.
ستكون التحولات الحاصلة في البيئة الدولية أساسية بالنسبة إلى تايوان إذا نجحت في تغيير قناعات شي جين بينغ حول هذه المسائل، لكن لم تكن الحرب في أوكرانيا كافية لتغيير رأيه، حيث تبدو آراء الرئيس الصيني حول القوة الأميركية والرد الدولي المحتمل على أي غزو لتايوان على حالها، حتى أن رغبة الصين في عدم إقامة أي مقارنات مع روسيا تزامناً مع توحيد صفوف العالم ضد موسكو قد تطيل المدة الزمنية اللازمة للسيطرة على تايوان بدل تقصيرها.
الصين أكبر من أن تتأثر بالعقوبات
يبدو أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوروبية على روسيا لن تغيّر رأي الصين، بل إن هذه العقوبات تؤكد بكل بساطة تقييمات بكين السابقة للتداعيات الاقتصادية المحتملة في حال استعمال القوة ضد تايوان، كما يتوقع القادة الصينيون أن تكون تكاليف الغزو الاقتصادية ثقيلة لكن مقبولة، نظراً إلى طبيعة ردّ المجتمع الدولي على الاستفزازات الصينية في الماضي وطريقة تصميم السياسة الخارجية الصينية لإقناع الدول بعدم التدخّل في شؤون الصين «الداخلية» التي تشمل مكانة تايوان.لا يعني ذلك أن تكون العقوبات الاقتصادية التي فرضها الأميركيون وحلفاؤهم على روسيا في الأيام الأخيرة غير مؤثرة، فقد منعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية وصول روسيا إلى معظم احتياطيات العملات الأجنبية التي تملكها، فباتت موسكو تعجز عن التدخل لتعويم عملتها المنهارة، حتى أن الحلفاء الغربيين جمّدوا أصول كبار المسؤولين الروس، بما في ذلك بوتين شخصياً، وهم يتجهون إلى إقصاء البنوك الروسية الكبرى من نظام الاتصالات المالية العالمية «سويفت».لكن يستطيع الأميركيون وحلفاؤهم اتخاذ خطوات أخرى لمعاقبة موسكو، كأن يلغوا جميع الصفقات التجارية أو المالية مع روسيا، ويمكنهم أن يصادروا أيضاً جميع الأصول الروسية التي تدخل في إطار صلاحياتهم، كذلك، تستطيع واشنطن أن تعلن فرض عقوبات ثانوية على كل من يستعمل الدولارات الأميركية للقيام بأي صفقة مع روسيا، وأخيراً وهو الأهم، تستطيع الولايات المتحدة أن تلجأ إلى هذه التدابير وسواها لمنع روسيا من تصدير الغاز والنفط. سيكون السماح لروسيا بمتابعة تصدير هذه الإمدادات مشابهاً لترك الصين تبيع الإلكترونيات الاستهلاكية رغم استيلائها على تايوان بالقوة.حرص الأميركيون وحلفاؤهم على إبداء رد حذر تجاه روسيا، لذا من المتوقع أن يكونوا أكثر تحفظاً في ردّهم على الصين، وتدرك بكين هذا الواقع، كما تستطيع الصين أن تردّ على الغرب عبر فرض عقوبات اقتصادية خاصة بها أكثر من روسيا، حيث تبلغ تبادلات السلع التجارية بين سنغافورة وروسيا نحو 2.5 مليار دولار سنوياً، وقد أعلنت سنغافورة حديثاً فرض قيود تجارية ومصرفية ضد موسكو، وفي المقابل، تصل قيمة التبادلات مع الصين إلى 57 مليار دولار، فلا يخشى قادة الصين العقوبات الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة في حال استيلائهم على تايوان لأنهم مقتنعون على الأرجح بأن موارد الصين وطاقتها الإنتاجية وشراكاتها الودّية تسمح لها بالصمود وحدها، لا سيما حين تصبح الصين قريباً أكبر اقتصاد في العالم، وهم محقون في تحليلاتهم على الأرجح، إذ تستطيع الصين أن تتحمّل أنواع العقوبات المفروضة على روسيا اليوم، ونظراً إلى قدرة بكين على إلحاق الأذى بالدول الغربية، ستكون أي تدابير ضدها أخف من تلك المفروضة على موسكو.تايوان ليست أوكرانيا
سيكون الرد العسكري الغربي على الغزو الروسي لأوكرانيا أصغر من تأثير العقوبات على رأي الصين بتايوان، إذ لم تنشر الولايات المتحدة أو حلف الناتو أي قوات عسكرية للقتال نيابةً عن أوكرانيا، ولا تزال المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا متواضعة (طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من وزارة الخارجية في أواخر الشهر الماضي أن ترسل أسلحة إضافية بقيمة 350 مليون دولار من المخزون الأميركي إلى أوكرانيا).لكن يُفترض أن تغزو روسيا أحد الحلفاء في الناتو من دون افتعال رد عسكري أميركي كي يشكك القادة الصينيون جدّياً بالتزام واشنطن بالدفاع عن تايوان، لقد أوضح بايدن منذ بداية الأزمة أن إدارته لن ترسل أي قوات عسكرية إلى أوكرانيا، ويتعارض هذا الموقف بشدة مع خطابه عن تايوان، وفي الأسبوع الماضي، أعلن بايدن بكل وضوح أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حال وقوع أي هجوم صيني ضدها، ثم أرسل إلى الجزيرة وفداً من المسؤولين الأميركيين السابقين بقيادة مايك مولن، رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، لإثبات دعمه لها.في مطلق الأحوال، يفترض المخططون الصينيون أن الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً نيابةً عن تايوان، لكن بعضهم يشكك بقدرة الأميركيين على حشد ما يكفي من القوات العسكرية بسرعة كافية لمنع أي هجوم صيني ضد الجزيرة، ولو أطلقت واشنطن عملية عسكرية رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، لكان القادة الصينيون سيحصلون على سبب إضافي للتشكيك بقدرة واشنطن على منع هجوم صيني ضد تايوان، فلا تملك الولايات المتحدة الموارد اللازمة لمحاربة الروس في أوروبا والاستعداد لخوض حرب كبرى بين القوى العظمى في آسيا.هذه الوقائع لم تمنع الصين طبعاً من محاولة التلاعب بالوضع لإحباط عزيمة تايوان، حيث تعجّ وسائل الإعلام الصينية الرسمية بتقارير عن امتناع الولايات المتحدة عن مساعدة أوكرانيا، مما يعني أنها لن تهبّ لمساعدة تايوان أيضاً، لكن على غرار معظم ما تقدّمه وسائل الإعلام الصينية، تعكس هذه القصص المسائل التي يريد القادة الصينيون نشرها في العالم ولا تُعبّر عن قناعاتهم الحقيقية.الوقت ليس مناسباً للهجوم
بدأ القادة الصينيون يفكرون طبعاً بشن هجوم على تايوان، لكنّ الوقت ليس مناسباً لاتخاذ هذه الخطوة، حيث يتابع الجيش الصيني تطوير القدرات التي يحتاج إليها للاستيلاء على الجزيرة والحفاظ عليها، ومن المستبعد أن يطلق شي جين بينغ مناورة خطيرة في تايوان قبل المؤتمر الحزبي المقبل في أواخر عام 2022، حيث يتوقع الجميع فوزه بولاية ثالثة كأمين عام الحزب الشيوعي الصيني، كما يسعى شي أيضاً إلى تخفيف اتكال الصين التكنولوجي على الغرب لتقليص تداعيات فصل البلد عن الخارج بعد أي حرب محتملة، ولهذه الأسباب كلها، يبقى الهجوم على تايوان قبل عام 2025 مستبعداً.قد تدفع أزمة أوكرانيا بالصين إلى الانتظار إذاً، فلا تريد بكين أن يساوي العالم بين التجربتَين، فمن وجهة نظر الصين، تبقى أوكرانيا بلداً مستقلاً يخوض صراعاً حدودياً مع روسيا، أما تايوان فهي «جزء غير قابل للمساومة من الأراضي الصينية» كما قال السفير الصيني في رابطة أمم جنوب شرق آسيا، دنغ شي جون، في أواخر الشهر الماضي، بعبارة أخرى قد تضعف مطالب الصين في الجزيرة عند ربط المسألتَين ببعضهما.تدرك الصين أيضاً أن التحرك ضد تايوان الآن قد يرسّخ المخاوف الغربية من نشوء محور استبدادي كامل، وقد لا تبدي الولايات المتحدة استعدادها لخوض حرب مطولة دفاعاً عن تايوان، لكن حين تشعر واشنطن فجأةً بضرورة الدفاع عن الحرية والديموقراطية ضد أي تحالف استبدادي ناشئ، قد تطلق رداً عسكرياً متوسعاً وتقنع حلفاءها بالقيام بالمثل، فهو جزء من السبب الذي جعل الصين تحاول الحفاظ على درجة من الحياد خلال أزمة أوكرانيا.لا شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا غيّر جوانب عدة من النظام الدولي، فقد حَشَد الدول الأوروبية ضد روسيا، ودفع ألمانيا إلى زيادة إنفاقها على الدفاع، حتى أنه أقنع الدول الحيادية تاريخياً، مثل فنلندا والسويد وسويسرا، باتخاذ موقف ضد موسكو، لكن من وجهة نظر الصين، لا تُغيّر أي خطوة أقدمت عليها روسيا أو خصومها حتى الآن الحسابات الصينية بشأن تايوان.