الأزمة الأوكرانية أبرزت دور برنامج الأغذية العالمي
في مواجهة أخطر أزمة في أوروبا بتوفير الطعام لملايين المدنيين
مع استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا يبرز الدور الرئيسي لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة في مواجهة أخطر أبعاد أكبر أزمة في أوروبا بتوفير الطعام لملايين المدنيين والحيلولة دون كارثة إنسانية تطول تداعياتها الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي العالميين.وأصبح البرنامج الذي تأسس في عام 1961 كمجرد «تجربة لتقديم المعونة الغذائية» من خلال منظومة الأمم المتحدة أكبر منظمة إنسانية في العالم تقوم بإنقاذ الأرواح في حالات الطوارئ و«تستخدم المساعدة الغذائية من أجل تمهيد السبيل نحو السلام والاستقرار والازدهار للناس الذين يتعافون من النزاعات والكوارث وآثار تغير المناخ».وقد تطورت مهمة البرنامج منذ أول تجربة قاسية في إغاثة الناجين بعد بضعة أشهر فقط من تأسيسه إبّان الزلزال المدمر الذي ضرب إيران في سبتمبر 1962 ثم إطلاقه أول مشروع تنموي في السودان في 1963 مع توالي وتزايد الأزمات جراء إعصار تايلاند وأول مشروع للوجبات المدرسية في توغو.
وهكذا أصبح مبدأ «المعونة الغذائية» حجر الزاوية في المساعدة الطارئة والمساعدة الإنمائية على نطاق واسع حتى تم إدراج برنامج الأغذية العالمي في عام 1965 بوصفه برنامجاً تابعاً كلياً للأمم المتحدة ليتعزز دوره في العقود اللاحقة مع تفاقم الأزمات الإنسانية على مر السنين ويتكشف معها الانتشار المميت للجوع الذي تحرك له ضمير البشرية.وحفزت هذه المهمة البرنامج على تطوير مهارات الخدمات اللوجستية في المعونة الغذائية بشكل هائل خلال المجاعات الطويلة التي ضربت الساحل الأفريقي الغربي في سبعينيات القرن الماضي استخدم خلالها البرنامج لمساعدة المحتاجين كل ما في وسعه من السيارات إلى الجمال ومن الطرق البرية إلى النهرية.كما لجأ لاستخدام طائرات الشحن في مواجهة المجاعة التي ضربت إثيوبيا عام 1984 في ايصال مليوني طن من الأغذية ثم أطلق في 1989 «عملية شريان الحياة في السودان» حيث قام مع وكالات الأمم المتحدة والجمعيات الخيرية بإسقاط 1.5 مليون طن من المواد الغذائية جواً فوق ما أصبح جنوب السودان في عمليات جوية هي الأكبر في التاريخ أنقذت مئات الآلاف من الأرواح.وكذلك نهض البرنامج بدور هام تأرجح بين «البرامج الإنمائية مقابل التدخلات الطارئة» في تسعينيات القرن الماضي في الأزمات الناجمة لانقسامات الكثير من الدول حيث شكل الفقر خلفية موحدة للكوارث الطبيعية والحروب وتفكك الدول مثل يوغسلافيا السابقة والإبادة الجماعية في رواندا.ومع بروز توافق عالمي في نهاية القرن الماضي على أن «محاربة الجوع تستلزم بالضرورة معالجة الأسباب الكامنة وراءه» مع أدراك أثر تغير المناخ مع اعتماد «بروتوكول كيوتو» عمل البرنامج في مظلة من المفاهيم الجديدة لمشاريع المعونة الطويلة الأجل التي يضطلع بها وتضاعفت شراكاته مع المنظمات غير الحكومية نحو هدف القضاء على الجوع.وفي عام 2000، تبنى المجتمع الدولي «الأهداف الإنمائية للألفية» في أول خطة عالمية من أجل «عالم خال من الفقر والجوع والأمراض المتصلة بهما» مع المطالبة بتحقيق إنجازات ملموسة أدت الى تضافر الجهود وتراجع في معدلات الفقر المدقع.وبعيداً عن الأزمات الإنسانية الكبيرة واصل البرنامج الابتكار في أداء عمله على ضوء التجديد المكثف في المفاهيم والتكنولوجيا لتتطور مهمته من تقديم «المعونة» الغذائية إلى توفير «المساعدة» الغذائية كنهج أكثر شمولاً وأبعد تبصراً بالاحتياجات الغذائية للجماعات والمجتمعات المحلية ويصبح تقديم «النقد» و«القسائم» مكملاً يدعم توزيع الأغذية العينية.وتمخضت الجهود عن إنشاء أول خدمة جوية إنسانية منتظمة في العالم هي «خدمات الأمم المتحدة للنقل الجوي للمساعدة الإنسانية» وتسمح نظم الرصد المتكاملة الجديدة للبرنامج بتقييم حالات الأمن الغذائي بدقة لا مثيل لها فعند وقوع حالة طوارئ يجري البرنامج اتصالاته بالخطوط الأمامية ويوفر الدعم اللوجستي لجميع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية. وسمح تطوير المنصات الرقمية بتحسين الكفاءة التشغيلية بدرجة تمكن المحتاجين من الحصول على الغذاء في غضون ساعات بفضل الخدمات اللوجيستية التي يديرها البرنامج الذي تطور من مجرد «خطة لتقديم المعونة الغذائية» ليصبح المنظمة الإنسانية الرائدة في العالم.وبفضل خبرته التشغيلية وأبحاثه وتوظيفه للأدوات المبتكرة يعد البرنامج المنظمة الرائدة في مجموعة الخدمات اللوجستية كما ويشارك في قيادة مجموعة الأمن الغذائي مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «فاو» ويستضيف كلتا المجموعتين في مقره الرئيسي في روما للعمل على تنسيق الاستجابات المنقذة للحياة في حالات الطوارئ الكبرى كما يقود مجموعة الاتصالات في حالات الطوارئ والتي توفر خدمات اتصالات فورية وثابتة للعاملين في المجال الإنساني.وصارت المساعدة المقدمة من البرنامج بالنسبة للملايين في جميع أنحاء العالم بمثابة طوق النجاة إذ تساعد تدخلاته الفورية عند اشتداد الأزمات في إنقاذ الناس من السقوط في هاوية المجاعة كما يساعد في بناء القدرة على الصمود والتكيف مع المناخ المتغير وتعزيز التغذية الجيدة وتحسين النظم الغذائية.وفي حالات النزاع يوفر الإغاثة للسكان المستنزفين ويستخدم المساعدة الغذائية لبناء مسارات للسلام والاستقرار في المناطق المتضررة وهو العمل الذي حصل بموجبه البرنامج على جائزة نوبل للسلام لعام 2020.كما يعمل البرنامج على تحسين التغذية لدى النساء والأطفال ودعم المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة من أجل تحسين إنتاجيتهم وتقليل خسائرهم ومساعدة البلدان والمجتمعات على الاستعداد للصدمات المناخية والتعامل معها وتعزيز رأس المال البشري من خلال برامج التغذية المدرسية.ويعد برنامج الأغذية العالمي أكبر منظمة إنسانية تنفذ مشروعات التغذية المدرسية في جميع أنحاء العالم منذ أكثر من 50 عاماً إذ قدم في عام 2020 وجبات مدرسية لأكثر من 15 مليون طفل أغلبهم في مناطق يصعب الوصول إليها.ويقوم البرنامج كل يوم بتسيير 5600 شاحنة و20 سفينة و92 طائرة لإيصال الأغذية والمساعدات لأشد المحتاجين ويوزع سنوياً قرابة 15 مليار حصة غذائية تتكلف الواحدة 0.31 دولار إذ ساعد 115.5 مليون شخص عام 2020 في 84 بلداً ضمن دوره في الاستجابة لحالات الطوارئ والقدرة على إنجاز المهمة بسرعة كبيرة حتى في أصعب البيئات.ويعتمد البرنامج في تمويل عملياته الإنسانية التي بلغت احتياجاتها التمويلية لعام 2021 حوالي 15 مليار دولار بالكامل من خلال المساهمات التطوعية السخية من الحكومات والمؤسسات والشركات والأفراد المانحين و«تذهب 93.5 في المائة من إجمالي المساهمات الحكومية مباشرة إلى دعم العمليات المنقذة للأرواح وتلك التي تغير الحياة».ومع اندلاع الصراع العسكري في أوكرانيا التي أدت إلى تشرد ونزوح الملايين داخل البلاد وتدفق أكثر من مليوني لاجئ أغلبهم من الأطفال والنساء حتى اليوم خارج الحدود وفق بيانات الأمم المتحدة يتصدر برنامج الأغذية العالمي جهود الإغاثة الإنسانية العاجلة بتوفير الطعام ومواد الإعاشة الأولية بالتضافر مع المنظمات الإنسانية الأخرى.وسارع برنامج الأغذية العالمية على لسان مديره التنفيذي ديفيد بيسلي للتنبيه إلى أن «الأزمة الأوكرانية ليست مجرد أزمة داخلية في بلد يتعرض للحرب بل إن ما يحدث سيؤثر على سلاسل الإمداد ولا سيما تكلفة الغذاء»، لافتاً إلى الظروف التي يحاول فيها العالم من التعافي من آثار جائحة كورونا المتعددة ومنها الارتفاع في أسعار الغذاء والوقود ومظاهر التضخم العام لاسيما في أوروبا.وفي هذا الصدد حذّر البرنامج من تداعيات الأزمة على تجارة القمح الذي تشكل روسيا وأوكرانيا 29 في المائة منها نظراً لأن أي اضطراب خطير في الإنتاج والصادرات من المنطقة يمكن أن يدفع أسعار المواد الغذائية إلى مستويات هي الأعلى خلال 10 سنوات ما يفاقم انحسار الأمن الغذائي لملايين الأشخاص خاصة الذين يعانون فعلاً تضخم أسعار الأغذية في بلدانهم.ويزيد كذلك الارتفاع المتسارع في أسعار الطاقة بسبب العقوبات الغربية على روسيا إحدى كبرى موردي الغاز والبترول والفحم في العالم من الآثار السلبية الواسعة على الأمن الغذائي في أنحاء العالم وخاصة على الملايين من ضحايا الأزمات ومن ثم زيادة التكاليف التشغيلية لعمليات برنامج الأغذية العالمي التي قدرها ما بين 60 إلى 75 مليون دولار إضافية شهرياً.ويقول البرنامج أن العالم يواجه منذ بداية عام 2022 تحدياً غير مسبوق بسبب النزاعات والتغييرات المناخية التي تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19 وارتفاع التكاليف ما يؤدي إلى «اقتراب الملايين من الموت جوعاً» والتهديد بزيادة الهجرة وعدم الاستقرار على مستوى العالم، داعياً إلى ايجاد تغيير ملموس في الدعم العالمي لعملياته.