ألمانيا تستيقظ من سباتها
كانت الحرب الروسية ضد أوكرانيا كفيلة بتوحيد التحالف العابر للأطلسي، فسارعت أوروبا وكندا والولايات المتحدة إلى إدانة ثاني غزو روسي غير مبرر لأوكرانيا، وتدفقت إمدادات الأسلحة والمساعدات إلى كييف من جميع أعضاء حلف الناتو وفنلندا والسويد أيضاً، وغالباً ما تكون مسألة العقوبات مثيرة للانقسامات، لكن الجهات المعنية وافقت عليها هذه المرة بسرعة نسبياً، وحتى سويسرا الغامضة بمواقفها انضمت إلى حملة تجميد بعض الأصول الروسية.لكن لم يكن التحول السياسي كبيراً في أي مكان بقدر ألمانيا، فقد تخلى هذا البلد عن السياسة التي يعتمدها منذ عقود بين ليلة وضحاها، فأطلقت الهمجية الروسية صحوة لافتة في ألمانيا، فانهارت المواقف الراسخة فجأةً، ومن اللافت أن تحصل هذه التغيرات السياسية كلها في عهد المستشار الألماني أولاف شولتس المنتمي إلى "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" الذي أشاد دوماً بأهمية الحوار للتعامل مع روسيا ولطالما تردد في إعطاء الأولوية للجيش.وقبل أيام أعلن شولتس أن ألمانيا أصبحت بصدد تعليق رخصة مشروع "نورد ستريم 2" بعد إعلان روسيا فرض سيطرتها على منطقتَي "دونيتسك" و"لوهانسك"، وتزامناً مع الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا، بقي المستشار الألماني حذراً بمواقفه حول استعداده لتعليق مشروع خط الأنابيب، لكن اتّضح اليوم أنه مستعد لهذه الخطوة.
أعلنت ألمانيا الآن أنها تُخطط لبناء محطتَين جديدتَين للغاز الطبيعي المُسال تماشياً مع قرارها وقف الاتكال على الغاز الروسي، ويُخطط البلد أيضاً لتسريع نشر مصادر الطاقة المتجددة والبدء بتجميع احتياطات استراتيجية من الفحم والغاز، ففي الوقت الراهن، يستورد البلد 50% من فحمه، و35% من نفطه، و55% من غازه الطبيعي من روسيا.بالنسبة إلى حكومة ائتلافية ركّزت على التغير المناخي والتخلي عن الوقود الأحفوري تدريجاً، يحمل القرار الألماني بإعطاء الأولوية لأمن الطاقة أكثر من الأهداف المناخية دلالات بالغة الأهمية، وفي غضون ذلك، تخلّت ألمانيا عن معارضتها القديمة لحذف بعض المؤسسات المالية الروسية من نظام الدفع "سويفت"، حيث اتفق الحلفاء على سحب عدد من البنوك الروسية من النظام، ومن المتوقع أن تُزعزع هذه الخطوة الاقتصاد الروسي.يتعلق تغيير جذري آخر بالإنفاق الدفاعي، ففي السابق، تردد الائتلاف الذي يقوده "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" في تجديد الالتزام بمعايير التمويل التي حددها حلف الناتو ويقضي بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، تزامناً مع تخصيص 20% من هذه النسبة لتأمين المعدات. لطالما استبعد الائتلاف هذه الخطوة.لكن جاء الغزو الروسي ليغيّر هذه الحسابات كلها، فقبل أيام أعلن المستشار شولتس أن ألمانيا ستلتزم الآن بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وأضاف قائلاً: "من الواضح أننا نحتاج إلى زيادة استثماراتنا في أمن بلدنا للدفاع عن حريتنا وديموقراطيتنا"، ومن المنتظر أن يضيف المستشار الألماني صندوقاً خاصاً للدفاع بقيمة 100 مليار يورو إلى ميزانية عام 2022 لتسهيل بلوغ ذلك الهدف.كذلك، قررت ألمانيا تعزيز وجودها العسكري في ليتوانيا كجزءٍ من "الحضور الأمامي المُعزز" لحلف الناتو هناك، حتى أنها عرضت المشاركة في وحدة مماثلة في سلوفاكيا وبدأت تؤدي دوراً مؤثراً في مهام الحراسة الجوية فوق مناطق البلطيق والبحر الأسود، كما تخلّت ألمانيا أيضاً عن إصرارها على عدم تقديم أي مساعدات فتاكة إلى أوكرانيا، وقد ذكرت صحيفة "بوليتيكو" قبل أيام أن ألمانيا بصدد إرسال ألف سلاح مضاد للدبابات و500 نظام دفاعي مضاد للطائرات من طراز "ستينغر" إلى أوكرانيا، كذلك سمحت الحكومة لهولندا بإرسال 400 قاذفة قنابل صاروخية إلى أوكرانيا، وأبلغت إستونيا بأنها تستطيع شحن أكثر من تسع مدفعيات من نوع "هاوتزر"، كانت ألمانيا قد منعت سابقاً شحن تلك المدفعية الألمانية الصنع إلى أوكرانيا. سيكون إحداث كل واحد من التغيرات السياسية الآنف ذكرها بالغ الأهمية بالنسبة إلى ألمانيا، حيث تثبت قرارات الحكومة المتلاحقة أن البلد يشهد تغيراً سياسياً جذرياً.لم يبدأ تنفيذ جزءٍ من هذه القرارات بعد، وقد يكمن الشيطان في التفاصيل بدرجة معينة، ويجب أن تنفّذ ألمانيا هذه الالتزامات طبعاً، لكن تبقى الرسالة التي وجّهتها في الفترة الأخيرة بالغة الأهمية، ويبدو أن روسيا أيقظت ألمانيا من سباتها، فبدأت برلين تتخذ أخيراً الخطوات اللازمة لأداء دور يتماشى مع قوتها الاقتصادية والسياسية داخل حلف الناتو.فقد قالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك: "لقد استيقظنا ووجدنا أنفسنا في عالم مختلف اليوم"، وكانت الصدمة التي عاشتها بيربوك والشعب الألماني ككل قوية، لكنها تُمهّد لتغيرات سياسية حقيقية قد تترافق مع تداعيات طويلة الأمد على ألمانيا والأمن العابر للأطلسي عموماً.