جرائم المال العام تتطور وتتعدد أساليبها، وتعود مرة أخرى بشكل جديد في كل فترة زمنية، فبعد عودة مجلس 1992 بعد التحرير انهمك المجلس في مواجهة عدد كبير من جرائم نهب المال العام التي تمت أثناء الحل والاحتلال، أبرزها قضية الناقلات، وقضايا مكتب الاستثمار الكويتي في لندن وإسبانيا، أما قضية الناقلات فاكتشفها مواطن مخلص وقام بعدها عبدالله حمد الرومي، رحمه الله، وزملاؤه بمتابعتها حق المتابعة حتى النهاية، أما جرائم الاستثمارات فقد قام وزراء المالية بالتحقيق فيها وتحريك القضايا في لندن وإسبانيا بعد التحرير مباشرة. أما مجلس الأمة فقد كان قانون حماية الأموال العامة هو أول قانون يقر بعد التحرير، كما ألغى القانون السابق لمحاكمة الوزراء الذي كنا نسميه قانون حماية الوزراء، وأقر قانونا جديداً بديلاً له، كما أقر المجلس قانون عدم سقوط جرائم المال العام بالتقادم، وأيضاً قرر المجلس إنشاء لجنة تقصي الحقائق في الغزو العراقي، وتحولت هذه اللجنة إلى لجنة تحقيق في قضايا المال العام، حيث حولت 33 قضية إلى النيابة، كما أقرت اللجنة اقتراحاً وافق عليه مجلس الأمة بإدخال رقابة ديوان المحاسبة في صفقات الجيش، فقام الديوان بعدها بالاعتراض على بعض الصفقات مثل صفقة "اليوروفايتر" وغيرها، وفي مجلس لاحق أقر مجلس الأمة اقتراح النائب مشاري العصيمي بأن تقدم الحكومة كشفاً دوريا بجميع قضايا المال العام وما تم فيها، وكنت وقتها رئيساً للجنة حماية الأموال العامة في الحكومة، حيث قامت اللجنة بإعداد كشوف تتضمن اسم المتهم ومكان القضية ومبلغ المال العام المسروق وفي أي مرحلة من مراحل التقاضي وبيان الحكم الصادر، وهل تم تنفيذ الحكم أم لا، وكان من أعضاء هذه اللجنة النيابة العامة والفتوى والتشريع (المستشار أسامة المقهوي) وممثل عن كل وزارة من الوزارات التي تعرضت لسرقة المال العام، وسطرت هذه اللجنة جهود هذه الجهات التي استمرت سنوات حتى تم كسب كثير من القضايا، وتمت استعادة كثير من الأموال المسروقة في قضايا الناقلات، وجلب المتهم الأول، ومطاردة المتهم الثاني حتى وفاته، كما تم إصدار أحكام قضائية في إسبانيا ومكتب لندن وجلب كثير من الأموال المهربة نقداً منها وأيضاً الأموال المهربة في البهاما.
وعندما أخبرني النائب العام حامد العثمان، رحمه الله، أن جميع الأحكام القضائية التي صدرت بعد التحرير ستسقط بمرور عشر سنوات، أي بعد شهور معدودة يعود بعدها المتهم الهارب إلى الكويت مستمتعاً بسرقته قمنا على الفور بإعداد القانون 31/ 2004 القاضي بإعلان المتهم الهارب بالحكم الابتدائي مع نشره في الصحف الرسمية والأهلية، فإذا لم يحضر للاستئناف يتم تنفيذ الحكم على أمواله داخل البلاد وخارجها، وأمر الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، الذي كان يترأس مجلس الوزراء بسرعة تحويل هذا القانون إلى مجلس الأمة، حيث أقره المجلس بالإجماع، وبناء عليه يتم الآن الإعلان عن بيع عقارات الهاربين لمصلحة الدولة.وفي فترة لاحقة تم اكتشاف وسائل جديدة للتعدي على أملاك الدولة العقارية فتقدم بعض أعضاء مجلس الأمة باقتراحات لحماية أراضي الدولة، وتم إقرار قانون BOT في اللجنة المالية التي تشرفت برئاستها، كما تم تقديم عدة استجوابات منا ومن غيرنا من الأعضاء من أجل استعادة أرض الوقف المغصوبة، وتكللت بالنجاح بحمد الله.وبعد ذلك اكتشف ديوان المحاسبة جريمة "ضيافة الداخلية"، وأحيلت إلى القضاء، وصدرت فيها أحكام بالسجن، وفي مجلس 2009 تم اكتشاف موضوع الإيداعات المالية في حساب بعض النواب، وأبلغ النائب العام الحكومة والمجلس بوجود فراغ تشريعي بخصوص عطايا النواب، لكن هذا التشريع لم يصدر حتى الآن، كما تم اكتشاف موضوع التحويلات الخارجية، ومؤخراً أثير موضوع صندوق الجيش وعلاقته بصناديق وحسابات أخرى، وهو لا يزال في أروقة القضاء.وهذا السرد المختصر يبين كيف تتنوع وتتطور وسائل التعدي على المال العام في كل فترة زمنية، كما تتحور وتتغير فيروسات كورونا، ولذلك يجب أن تواجه في كل فترة وشكل من أشكالها بإجراءات جديدة ومناسبة لهذا التحايل والتحوّر، ولكن لوحظ أن تصدي المجالس الأخيرة لم يكن بقدر كفاءة ودقة وحرفنة المجالس التي سبقتها. وأيضاً نستطيع بناء على هذا السرد أن نقترح وضع خريطة طريق وخطوات برلمانية لمنع وقوع انتهاكات المال العام في المستقبل، واكتشافها والحيلولة دون وقوعها ومنها: 1- ضرورة تشجيع المواطنين على التبليغ عن أي خلل مالي تقع عليه أعينهم في الجهات التي يعملون بها وحمايتهم ومكافأتهم.2- ضرورة حسن اختيار القياديين دون واسطة أو تدخل من المتنفذين أو النواب ووجوب إصدار قانون جامع ينظم اختيار القياديين.3- ضرورة قيام مجلس الأمة بإنشاء لجان التحقيق البرلمانية في جميع الشبهات التي تتعلق بالمال العام حتى لو كانت معروضة على القضاء وتفعيل المادتين 8 و9 من قانون اللائحة، على أن يكون دورها هو استحضار الأدلة والبراهين في كل قضية وتقديمها للقضاء.4- ضرورة سد الفراغ التشريعي بإصدار قانون القيم البرلمانية ومنع هدايا النواب أو استفادتهم أو تدخلهم في أعمال الحكومة.5- ضرورة توسيع وشمول رقابة ديوان المحاسبة لجميع الصناديق المتعلقة بالجيش أو غيرها من الصناديق التي لا تشملها الميزانية العامة، وإزالة السرية عنها ما عدا صندوق أو حساب واحد يكون بعهدة صاحب السمو الأمير، ويتعلق بالمصالح العليا للبلاد، ويكون هو الصندوق السري الوحيد، ويستطيع الوزراء الشرح للأمير حول ما يحتاجون إليه من مصروفات تتعلق بهذه المصلحة والسرية.6- إصدار قانون عاجل بشأن أخطاء الموظفين يعفي الدولة من التعويض عن الأخطاء الجسيمة للموظفين إذا كانت هذه الأخطاء تمت بالمخالفة للقوانين أو قرارات مجلسي الوزراء والبلدي، أو كانت بالاتفاق بين بعض الأطراف، مما يوفر الملايين على الدولة.7- التعاون مع المنظمات الدولية مثل مبادرة (ستار) التي أنشأها البنك الدولي مع مكتب الأمم المتحدة للجريمة والمخدرات، وهي التي تعمل على تقديم المعرفة والخبرة للعاملين في مجال استرداد الأموال، وأصدرت دليل استعادة الأموال المنهوبة، كما وفرت قاعدة بيانات بهذا الشأن، وتتعاون فيها الأطراف المشاركة في كيفية تتبع الأموال والتعاون مع الشرطة الدولية، وكذلك يمكن للحكومة أن تكلف منظمات خاصة لتتبع الأموال.8- ضرورة أن تزود الجهات المعنية حكومية وبرلمانية وجهات التحقيق المختلفة، الجهات القضائية بالمعلومات الكافية والتفصيلية والتحريات الدقيقة بشأن قضايا الأموال العامة، وأيضاً بشأن الصناديق والحسابات المختلفة بحيث تتم معرفة ما هو المصروف منها في الشأن العام والمصالح العليا مع ضرورة اكتشاف ما تم استغلاله لتحقيق أهداف ومكاسب خاصة.9- ضرورة إصدار الأحكام القضائية المناسبة التي تردع أي تعدٍّ على المال العام وملاحقة مرتكبيها الهاربين.10- ضرورة الإعلان عن جميع هذه الخطوات والإجراءات وإطلاع الشعب عليها في جميع وسائل الإعلام والتواصل، حتى تتم المشاركة الشعبية في هذه القضايا وتترسخ الثقة في إجراءات الحكومة والمجلس.والله الموفق.
مقالات
رياح وأوتاد: تحوّر فيروسات المال العام في مقابل عمل المجلس منذ 1992
14-03-2022