حوار أوكراني مع صديقي الألماني*
أين تقع أوكرانيا؟ قبل أسابيع كان الكثيرون لا يعرفونها ربما إلا عبر بعض نكاتهم السمجة التي ما لبثوا أن نشروها وطبول الحرب تقرع عند أبواب مدنها، والعالم ينقسم أكثر وأكثر إلى معسكرات عدة، ربما أو يبقى ذاك المعسكر نفسه متمسكاً بالمقولات والمناشدات نفسها والتهديد والوعيد، والطرف الآخر لا يقل عنه قدرة على التهديد والوعيد، وربما هو أضعف فقط في توافر هذا الكم من وسائل التواصل والإعلام التي يسيطر عليها الفريق الأول إن لم يكن بشكل مباشر فعبر "أعوانه" أو"أتباعه" أو الخائفين منه!!!الحروب هي الحروب، والبشر هم البشر، أو هكذا تصورنا، والوجع أيضا لا يمكن أن يعرفه إلا من كابد وجع القصف والتشرد والبحث عن ملجأ أو حتى خيمة، في حين الطائرات والأسلحة "الحديثة" والمتطورة تطارد الأطفال والنساء والرجال الفارين من حرب لم يتصوروا أنها بهذا القرب، والمشهد هذا تغص به محطات التلفزة ونشرات الأخبار، أما على وسائل التواصل فهناك أصوات أخرى لأن الفرد هنا يستطيع أن يجد مساحة لصوته ورأيه غير المسموح به في تلك المحطات والنشرات، هنا كثير من الأفارقة والعرب معهم وآخرون من غير ذاك العرق أو الجنس أو الجنسية... هنا شاب يقول أنا وغيري عالقون بين قذيفة وأخرى وبين حدود أوكرانيا وبولندا لأنه لم يسمح لهم العبور قبل الأوكرانيين... ربما في الحديث بعض المبالغة ربما أو حتى سيطرة عامل الخوف التي تدفع الفرد منا للتوسل للمساعدة واستخدام كل الأساليب ربما أيضا، ولكن عندما يتصدر خطاب التمييز والعنصرية مقدمي النشرات والمراسلين الأجانب على الأرض الأوكرانية العواصم الأوروبية والمدن الأميركيه يتحول المشهد إلى شيء من الاستغراب، ثم تأكيد الكثير من النظريات التي كنا نأمل أن تكون مغلوطة، وأهمها أن حقوق الإنسان، والدعوة لاحترام البشر في كل مكان دون التمييز بينهم حسب الجنس أو العرق أو اللون أو العقيدة، هي مجرد شعارات تستخدم هنا وهناك عند الحاجة وحسب المصالح السياسية والاستراتيجية والاستعمارية أيضا!! ليس المثير أن الإعلام الغربي وكثير من الإعلام المسمى "عربي" هي عنصرية وتقوم بالتمييز والتفرقة علانية وعلى رؤوس الأشهاد كما يقال، ولكن الأكثر إثارة أن من يتحدث عن ذلك أو يوجه إليه الملاحظة يتهم بأنه هو العنصري، وأنه متواطئ مع موسكو وموافق على عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا.. هم أيضاً وكعادة الإعلام "الحداثي" يحاولون أن يسلطوا– كما كاميراتهم– الأضواء على مقتطفات من العملية والتاريخ، ولا يعطوا الرواية الكاملة فيتحول المشهد إلى شكل من العبثية إن لم يكن الجنون.
فجأة وسط كل ذلك يخرج صديقي الألماني من صمته الطويل بعد أعوام من تركه منصبه الدبلوماسي الرفيع المستوى في ذلك البلد العربي والانتقال إلى بلد آخر لا يقل حضارة وعراقة وتاريخا معطرا بكثير من العلم والثقافة والفنون، وبعد السؤال عن الأحوال والأوضاع "والذي منه" مما يقال للبدء بحديث أكثر حساسية، يقوم بطرح الأسئلة عن أوكرانيا وبنبرة لا تخلو من الفزع من القادم، وتأثيره على البشرية ومستقبلها، يسألني: هل كنتِ تتوقعين أن يحدث هذا؟ بكثير من السذاجه ربما أو الإيمان بأن صديقي الدبلوماسي العريق الذي عاش بيننا لسنوات عدة يدرك معنى أن تسأل عربياً عن الحروب ومعناها في منطقة لم تعرف سواها لسننين عدة على اختلافها وتنوعها ومنطقة تعاني احتلالاً منذ أكثر من 73 سنة، هنا وعندما عرج الحديث بيننا على نظرة سريعة لما حدث من تشريد وتجويع وحصار على كثير من البشر في مناطق عدة، ثار غضب الصديق وتحول من الدبلوماسية المعهودة لدى كثير من الأوروبيين إلى نبرات الغضب المغمسة بكثير من الخوف، ثار غضبه تشبيه الحالة بفلسطين الدولة الوحيدة التي تقبع تحت الاحتلال حتى الآن على هذه الأرض. أما تشبيه معاناة الأوكرانيين بتلك التي مر بها السوريون واليمنيون والليبيبون والعراقيون والأفغان و... و... وكثير من الأفارقة والآسيويين وغيرهم من شعوب الكون، فهذا ما أثار غضبه الشديد، وصار يصرخ بأعلى صوته "لماذا تأتون بفلسطين في الحديث عن أية قضية؟ وما علاقة الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 بما يحدث في أوكرانيا الآن؟ وصار يردد "هل تعرفين مدى خطورة ما يحدث؟ هذا يعني دمار أوروبا ومنها العالم"، فكان سؤالي الهادئ جداً، ولماذا لم يتدمر العالم بعد قتل وتشريد الكثير من الذين ذكرته بهم من شعوب العالم؟ صار يكرر ليس من العدل المقارنة، ليس من العدل أن تقارني الأوكرانيين الأوروبيين بالأفغان المتطرفين أو العراقيين العنيفين أو... أو... أو... أما عندما ذكرته بأن في كلامه نكهة من العنصرية والتعالي فشاط غضبا وردد "ليس من العدل أن تصفي ما يحدث بذلك، وأنتم العرب عنصريون أكثر تجاه الأفارقة... إلخ... إلخ"، قلت معك حق إننا عنصريون ربما، ولكن هل تبرر عنصريتنا عنصريتكم وأنتم من تنادون بحقوق الإنسان وتمارسون أنواعاً من العنف اللفظي أو العملي على كثير من الشعوب بحجة حمايتهم من حكامهم الدكتاتوريين والعنصريين وغير المعنيين باحترام مواثيق حقوق الإنسان؟ هنا آثرت الصمت وأدركت أن العنصرية تسكن أحياناً تحت جلود بعضنا، وكثير منهم أيضاً. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.