الأمن الغذائي في زمن «الكوروكرانيا»
الأمن الغذائي حاجة ملحة ومستدامة لمجتمعاتنا، وتأمينه يرتبط حتماً بخطط مدروسة تستهدف زيادة مساحة الأراضي الزراعية، والاستخدام الأكفأ للماء والسماد والمخلفات العضوية، والتقليل من هدر الطعام مع السيطرة على النمو السكاني السريع... لكنه يرتبط أيضاً بحسن الإدارة ونجاعة التخطيط المسبق وتشجيع عناصر "الاكتفاء الذاتي".
هلّ علينا العقد الثاني من الألفية الثانية لهذا القرن حاملاً معه أزمتين عالميتين طالتا بحدّتهما واتساع نطاقهما الاستقرار الدولي قاطبة؛ فلم يبق أي شعب بمنأى عن التداعيات السلبية لجائحة "كورونا" ولم تسلم أي دولة من الآثار المباشرة أو غير المباشرة للحرب في أوكرانيا.ولعلّ التداعيات الأخطر والأبرز لما يمكن أن نسميه زمن "الكوروكرانيا" يظهر جليّاً على مستوى الأمن الغذائي، حيث لجأت دول العالم في مواجهة جائحة "كورونا" الى ما يشبه العزل الذاتي، فأقفلت المطارات وتعطلت حركة المواصلات الداخلية والخارجية، كما اضطرت نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية للتعامل مع أزمة كبيرة عنوانها الرئيس ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والشح في المكونات الأساسية للأمن الغذائي كالقمح والذرة والزيوت النباتية وغيرها مما ينتجه طرفا النزاع والدول المحيطة.ما إن بدأ دخول القوات الروسية الى المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا حتى بدأ الحديث عن تخطي سعر برميل النفط الخام عتبة المئة دولار، مع توقع ملامسته الثلاثمئة دولار في حال اتسعت رقعة النزاع أوروبياً وربما عالمياً، وما إن بدأت العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي ونظامها المصرفي تأخذ مفاعيلها حتى تصاعدت الخشية من اندلاع حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها، الى جانب السلاح النووي، ورقة إمدادات الطاقة والمواد الخام، الأمر الذي بدأت إرهاصاته بتحذير موسكو من إقدامها على خطوة وقف تدفق الغاز عبر خطوط أنابيب "نورد ستريم" التي تمد القارة العجوز بـ40 في المئة من احتياجاتها من الغاز.
من جانب آخر، إذا ما طال أمد الحرب في أوكرانيا أو اتسعت رقعتها، يتخطى العالم رسمياً عتبة المخاوف ليدخل رسمياً في مرحلة الأزمة الغذائية ولاسيما في البلدان الفقيرة التي تقاسي ظروفاً طبيعية صعبة كالجفاف، وندرة الأراضي الزراعية، أو التي تعاني سوء إدارة أو فساد واحتكار يؤثر سلباً على مخزونها الغذائي، وهذا ما دعا ألمانيا التي تترأس هذا العام مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى لاستضافة وزراء الزراعة لدول المجموعة بهدف التباحث في تأثير الأزمة الأوكرانية على الأمن الغذائي، ومناقشة كيفية تحقيق الاستقرار في أسواق الغذاء الأوروبية والعالمية على أفضل وجه، وبخاصة أن روسيا وأوكرانيا هما من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتمثل صادراتهما من القمح مثلاً ما يقرب من ربع الإمداد العالمي.وفي السياق ليس خافياً أن الدول العربية بشكل عام هي من أشد المتأثرين بالقرارات المتخذة من السطات الروسية والأوكرانية بمنع تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية والغذائية، إذ تشير الأرقام أن دولتي النزاع تؤمنان ما يقارب الـ60 في المئة من احتياجات العالم العربي من القمح والحبوب، ولا يغيّر من هذا الواقع ارتفاع سعر النفط، حيث لا يعني توافر السيولة النقدية في الدول النفطية سهولة حصولها على احتياجاتها من المواد الغذائية والزراعية التي ستكون موضوع منافسة دولية شرسة تذكر باحتدام التنافس على المواد الطبية والوقائية المرتبطة بجائحة كورونا، ناهيك عن تأثر خطوط الإمداد العالمي وحركة الملاحة باتساع نطاق العمليات العسكرية وحدّتها. ما يحدث في العالم في هذه الفترة، وإن كان بالغ الخطورة، ليس بجديد، فقد سبق أن طالت شظايا الحربين العالميتين البنيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمعظم دول العالم، وعانت شعوب الأرض أزمات اقتصادية شاملة وحادة نستذكر منها الكساد الكبير عام 1929 والأزمة المالية عام 2008، لكن الفارق الرئيس بين دولة وأخرى وشعب وآخر يبرز جلياً في كيفية التعاطي مع الأزمة وبمقدار النجاح في الاستفادة من دروسها والانطلاق من سوداوية الواقع الى إشراقة المستقبل، الأمر الذي صنع الفرق لألمانيا الحديثة التي تمكّنت سريعاً من تخطي الهزيمة في حربين عالميتين لتفرض نفسها على أقوى المنتصرين عليها وتسجل اسمها في سجل أكبر الاقتصادات العالمية.وطالما أن الحاجة للغذاء تتعادل- وربما تتفوق- بالأهمية مع حاجة الشعوب للطاقة، يطفو الى السطح تساؤل مصيري عن اتجاهات العالم في شأن التعامل مع الأمن الغذائي المتأثر سلباً بالجائحة الكورونية والأزمة الأوكرانية وهو: هل ستتصاعد نزعة "الاكتفاء الذاتي" وتتحول ربما الى نهج من الانعزالية لدى الدول والشعوب؟ أم أن "العولمة" التي فرضها نظام الأحادية الدولية لن تسمح لظروف عابرة أن تزعزع أواصرها؟ في زمن كورونا، وبضغط الحاجة لتأمين الأمن الصحي لشعوبها، أدارت أوروبا ظهرها لحاجة إيطاليا الملحّة من الأسرّة والمستلزمات الطبية والوقائية لمواجهة الجائحة التي طالتها أكثر مما طالت غيرها من الدول المجاورة، وبذلك صار الحديث مكرراً عن أن ما قبل الجائحة ليس كما بعدها على صعيد العلاقات الثنائية والأوروبية. وما أشبه الأمس الأليم باليوم الدامي، إذ إن معركة عض الأصابع التي دارت رحاها بين الدول والمجتمعات في صراعها مع وباء كورونا المستجد، تكشف عن أنيابها مجدداً في زمن الأزمة الأوكرانية التي يخشى معها ازدياد الانهيارات الاقتصادية وسيطرة المجاعات البشرية في ظل تدهور لافت بالعلاقات الدولية.التعامل الأصوب مع الأزمات المستجدة في زمن "الكوروكرانيا" لن يكون إلا بحسن الاستفادة من النمط الصيني الذي أثبت فاعليته وجديته بالتعامل مع جائحة كورونا التي انطلقت من مدنه فحاصرها سريعاً، وتغلب عليها بالحزم المترافق مع حسن إدارة للأزمة وعدم الاحتياج للخارج الذي عادة ما تكون فاتورته السياسية والاقتصادية والمالية أكبر بكثير من مقدرات الشعوب الضعيفة والدول الصغيرة. الأمن الغذائي حاجة ملحة ومستدامة لمجتمعاتنا، وتأمينه يرتبط حتماً بخطط مدروسة تستهدف زيادة مساحة الأراضي الزراعية، والاستخدام الأكفأ للماء والسماد والمخلفات العضوية، والتقليل من هدر الطعام مع السيطرة على النمو السكاني السريع... لكنه يرتبط أيضاً بحسن الإدارة ونجاعة التخطيط المسبق وتشجيع عناصر "الاكتفاء الذاتي" المتمثلة بزراعة ناجحة وصناعة رائدة وتبادل تجاري مدروس، مع المحافظة قدر الإمكان على الموارد الطبيعية وحسن استثمارها والترشيد في استخدامها، فهل من إدارة تسمع وشعوب تعي؟!* كاتب ومستشار قانوني.