أوكرانيا تنضم إلى معركة استمالة الروس
منذ بداية الغزو الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، أثبتت أوكرانيا أنها خصم يستحق التقدير أمام أنظار العالم، فقد تفوّق الخطاب الأوكراني بكل وضوح ولم تجد روسيا أي بلد ينحاز إليها، حتى دعم الصين يبدو مريباً بعدما كذب بوتين على الرئيس الصيني شي جين بينغ، كما يُقال، وأبلغه بأنه لن يُقدِم على غزو أوكرانيا. في المقابل، رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الهرب إلى مكان آمن، وحصدت المقاومة الأوكرانية القوية للغزو الروسي إعجاب العالم ودعمه، وأحدثت ألمانيا من جهتها تحولاً تاريخياً في سياستها، فأوقفت التركيز على قطاع الأعمال مع روسيا وطرحت نفسها كزعيمة حقيقية لأوروبا وقادة المعسكر المعارِض للحرب الروسية في أوكرانيا. تقبّل الشعب الروسي حكاية بوتين حول تعرّض روسيا للتهديدات بسبب عدائية أوكرانيا وحلف الناتو، مما يعني أن أوكرانيا مستعدة للغزو ما لم تتحرك روسيا أولاً، لكن لا تريد أوكرانيا أن يرضخ الرأي العام الروسي للكرملين، بل تحاول استغلال أضعف نقطة من خطابه، أي الفكرة القائلة إن أوكرانيا ستنهار حين تواجه "العمليات الروسية الخاصة".حين بدأت الحرب، حاول الكرملين تكرار السيناريو الذي طبّقه في عام 2014، فأخفى عدد القتلى في المعارك، ووصفت وزارة الدفاع الروسية تفاصيل العمليات العسكرية لكنها لم تذكر شيئاً عن الضحايا، ثم صدر موقف متردد يشير إلى سقوط عدد هائل من القتلى: اعترف الجيش الروسي قيب أيام بمقتل وإصابة جنود في صفوفه داخل أوكرانيا، لكنه لم يذكر العدد، وأعلن متحدث باسم الجيش الروسي: "لسوء الحظ، سقط قتلى وجرحى بين رفاقنا"، ثم انتقل إلى الإشادة بشجاعتهم وروحهم البطولية.وفي إشارة أخرى إلى ارتفاع عدد القتلى بدرجة غير متوقعة، حذرت رسالة صادرة عن وزارة الصحة من "حدث طبي كبير" يستلزم سحب الأطباء من جميع أنحاء البلد، فأصبحوا في حالة "تأهب"، ومن الواضح أن بوتين لم يتوقع هذا المستوى من المقاومة والخسائر، كان يُفترض أن تنتهي الحرب الخاطفة بحلول المرحلة الراهنة، لكن وقعت أحداث مفاجئة كثيرة.
وفي موقف آخر لمنع بوتين من إخفاء عدد القتلى الحقيقي، دعت أوكرانيا اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى القيام بعملها الإنساني لإعادة رفات الجنود إلى روسيا، وتذكر أوكرانيا أن تلك اللجنة قد "تصبح وسيطة حيادية لإعادة الجثث ومعالجة مسائل إنسانية أخرى في الصراع، بما في ذلك إيجاد المفقودين ولمّ شمل العائلات".يواجه بوتين أيضاً مشكلة مع أمهات الجنود الروس، تتذمر هذه المجموعات حتى الآن لأن أبناءهنّ المجندين يُفترض أن يتم إعفاؤهم من المشاركة في المناطق القتالية إلا إذا وافقوا على القتال طوعاً، حيث تشتكي أمهاتهم بعد أخذ أبنائهن إلى الحدود الأوكرانية وإجبارهم على توقيع عقود تجعلهم جنوداً نظاميين وملزمين بالمشاركة في المعركة رغم تدريباتهم البسيطة أو عدم تلقيهم أي تدريب. ثمة مصدر أخير للمعلومات المرتبطة بعدد القتلى في أوكرانيا: إنها الكنائس الأرثوذكسية الروسية التي راحت تُعدّد أسماء القتلى في الأيام الخاصة من رزنامة الكنيسة، إذ بدأ أبناء الرعية الذين يحضرون هذا النوع من المناسبات يسمعون أسماء شبان في عمر الخدمة العسكرية، ومن الواضح أنهم يفهمون حقيقة ما يحصل.تعلّمت أوكرانيا دروساً قيّمة من أول حرب بين روسيا وأوكرانيا في عام 2014، وأدرك الأوكرانيون أهمية كسب قلوب وعقول الناس، ليس وسط الحلفاء فحسب بل في صفوف الأعداء أيضاً، فقد كانت قوة بوتين تكمن في قدرته على إقناع الشعب الروسي بمفهوم "روسيا المحصّنة"، مما يعني أن الغرب يريد نسف روسيا وقيادتها الحكيمة عن الخريطة، أما المكافأة التي يحصل عليها الروس مقابل تصديق هذا الخطاب، فهي تتمثل باسترجاع "روسيا العظمى" التي تحظى باحترام فائق على الساحة العالمية بفضل فلاديمير بوتين الذي لا يطلب شيئاً في المقابل، وما من عامل آخر لتفسير السبب الذي جعل الشعب الروسي مستعداً لتقبّل الحرب الأوروبية الأولى منذ عام 1945، لكن هل سيتابع الروس تصديق خرافات الكرملين حين يدركون أنهم مواطنون في بلد خارج عن القانون تدينه جميع دول العالم؟