في حوار شائق، وشائك في الوقت ذاته، مع صراحة لم نكن نتوقع مستواها، دارت عجلة حوار «الجريدة» مع رئيس جمهورية مالطا جورج فيلا، الذي تنقل معنا بين قضايا دولية عديدة، من مالطا إلى الاتحاد الأوروبي إلى النظام العالمي إلى مجلس الأمن، إلى القوى الدولية، إلى الحرب الباردة، إلى تطلعاته في ظل التطورات الدراماتيكية التي يعيشها العالم في الفترة الراهنة، والتي تجبرنا على الاعتراف بأن القوة الآن باتت فوق الحق، لا العكس.

وطغت على لغة الحوار، لاسيما مع شعار «القيادة من أجل السلام» الذي تبناه المنتدى العالمي الثاني للسلام الذي نظمته مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين، في مالطا، أحداث الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث وصفها الرئيس فيلا بأنها مأساة زعزعت النظام الدولي، مع تشديده على ضرورة عدم البقاء جامدين أمام ما يحدث في أوكرانيا من مشاهد رعب الأطفال والنساء بعد انفصالهم عن ذويهم وسط الشتاء القارس.

Ad

ورأى الرئيس المالطي أن هذه الماساة التي يعيشها العالم إذا كان فيها من نقطة مضيئة، فقد تجلت في نسيان أوروبا خلافاتها، وتحلّيها بشكلٍ مبهر من التماسك في وجه هذا العدوان، مشدداً على أنه استنكر صراحة ذلك الغزو، وسيبقى مُصراً على إدانته مادامت الاعتداءات تحصد الأرواح وتهدد الملايين من الأبرياء.

وعرج الحوار إلى آفاق علاقات مالطا مع الكويت والتي بدأت دبلوماسياً منذ 50 عاماً، حيث أكد فيلا أن بلاده كانت في طليعة من دانوا أحداث الغزو الغاشم للكويت عام 1990، حين كانت مالطا تترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك العام.

وذكر أن بلاده تعطي أهمية متزايدة للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي والخليج عموماً، ولا سيما مجلس التعاون الخليجي، «ونظراً إلى تقارب المصالح الاستراتيجية بين الفريقَين، نحن نثق بقدرة الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون على طرح خطاب مثمر ومفيد للطرفين»، مثنيا على دور الكويت البنّاء كصوت داعم للحوار والسلام وجهود الوساطة في منطقة الخليج. وهنا تفاصيل الحوار:

أجرى الحوار ياسر السعدي

• في ظل اهتمام العالم الرسمي وغير الرسمي والمؤسسي بالسلام وتصاعد دعوات الشعوب إلى إرسائه، هل تظن أن هذه الدعوات المتلاحقة قد تتحقق يوماً؟

يصعب أن نتصوّر سيناريو تتحقق فيه جميع الدعوات إلى إرساء السلام بالكامل. تبقى العوامل التي تتابع التصدي لمساعي السلام متشعبة ولا تكف عن التطور. ومادام اللاعبون الفرديون دولياً وإقليمياً يتابعون التورط في صراعات أو اضطرابات لتحقيق مصالحهم وطموحاتهم الخاصة، أظن أن إرساء السلام سيبقى صعب المنال.

• تزعم حكومات العالم كلها أنها تريد السلام، وتسعى جميع الشعوب إلى إرسائه، ويُشدد قادة العالم دوماً على أهميته. فمن يعوق مساره إذاً؟ وما طبيعة هذه العوائق والمسؤول عنها؟

نحن نتعامل مع خليط من العوامل المؤثرة أبرزها أن الأجندات الفردية والانتهازية تطغى أحياناً على العوامل الأخرى، بما في ذلك بيع وتوريد الأسلحة والذخائر، وغالباً ما يترافق هذا الوضع مع سباق للوصول إلى الأسواق وإمدادات الطاقة، أنا شخصياً بدأتُ أشك بالمعايير المزدوجة المعمول بها في معظم الأوقات.

كما أن الأدوات المتاحة لا تزال محدودة رغم جميع النوايا الحسنة التي نسمعها عموماً خلال المؤتمرات. أنا من أشد المؤمنين بالتعددية، وأظن أن الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه العوائق تقضي بإصلاح طريقة تشغيل الهياكل متعددة الأطراف ميدانياً. المبادئ المعتمدة صائبة بشكل عام، لكنّ طريقة تطبيقها تتطلب جهوداً مضاعفة.

تقييمات جديدة

• في العصر الحديث، انتقل العالم من مرحلة أحادية الجانب إلى أخرى ثنائية القطب غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم وصل إلى الوضع الحالي... فكيف تَصِف المرحلة الراهنة؟

مهّدت حقبة ما بعد الحرب الباردة لظهور لاعبين فرديين اكتسبوا نفوذاً واسعاً في محيطهم وما وراءه. كذلك، جاءت ظاهرة العولمة لِتُرسّخ هذه النزعة إلى إنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب فيما سعت الدول التي لا تدخل في خانة القوى العظمى التقليدية إلى زيادة قوتها الاقتصادية، ما يعني تحسين براعتها السياسية والعسكرية أيضاً. لكنّ الظروف المريعة في أوكرانيا أوصلتنا إلى وضع مختلف بالكامل، فقد اندلعت حرب في قلب أوروبا وظهرت تقييمات جديدة حول حقيقة انتهاء الحرب الباردة.

• بما أن خمس دول فقط تملك عضوية دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ولديها حق النقض، هل تظن أن الكلام عن وجود عدالة مطلقة بين دول العالم قابل للاستمرار؟ وما تأثير هذا الوضع على السلام العالمي؟

كما سبق وذكرتُ، أنا من أشرس المدافعين عن الدبلوماسية متعددة الأطراف، على أن تكون الأمم المتحدة محور هذه الجهود. لكني مقتنع بأن الوقت حان كي تُمثّل هذه البنية العالمية الوقائع المستجدة وتعالج التحديات المعاصرة. لقد أثبت النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية أنه يزداد ضعفاً في وجه الأزمات التي شهدناها حديثاً في سورية، وليبيا، واليمن، وأخيراً أوكرانيا. حين كنتُ وزير خارجية مالطا (بين عامي 2013 و2017)، شاركتُ في نقاشات مكثفة كانت مُصمّمة لإصلاح طريقة عمل مجلس الأمن، لكن لم يتحقق شيء من هذه النزعة الإصلاحية على أرض الواقع.

في هذا السياق، اسمحوا لي أن أشير إلى استعداد مالطا وقدرتها على المشاركة في إرساء السلام العالمي بطريقة ملموسة، وتحديداً عبر مجلس الأمن، في خضم سعيها إلى كسب مقعد غير دائم بين عامي 2023 و2024. أنا مقتنع بأن مالطا ستؤدي دوراً ناجحاً جداً خلال عهدها في مجلس الأمن بفضل سجلها الحافل بجهود تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل، لا بين الدول فحسب، بل بين الديانات والثقافات أيضاً.

جورج فيلا: سأزور الكويت في مايو
خلال الحوار، استذكر الرئيس المالطي جورج فيلا موقف بلاده القوي، حين كانت ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء الغزو الغاشم للكويت عام 1990، ومساندتها الحق الكويتي، غداة غزو القوات العراقية، مبيناً أن هذا الموقف نجمت عنه صداقة تاريخية.

وأضاف فيلا أن هذا عام 2022 يحمل أهمية خاصة لأنه يتزامن مع الذكرى الخمسين لبدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين الصديقَين، معتبراً أن المنتدى العالمي الثاني للسلام أثبت بكل وضوح أن هذه العلاقات تتجاوز حدود الحوار المنظّم الذي يتبادله الجانبان على المستوى السياسي، إذ عمد الأكاديميون وأعضاء المجتمع المدني ورجال الأعمال وطلاب الجامعات في البلدين إلى تكثيف نمط التبادلات بين الطرفين بطرق لافتة جداً.

وأوضح أن مما زاد دفء العلاقات قرار البلدين تعيين بعثات دبلوماسية مقيمة في عاصمة كل منهما، وهي مبادرة مفيدة دوماً لإطلاق تعاون ملموس في مختلف القطاعات.

وأعرب عن رغبته في تعزيز العلاقات مع الكويت، «إذ أخطط لزيارة هذا البلد في وقتٍ لاحق من هذه السنة، في شهر مايو على الأرجح، ستكون هذه الزيارة مؤشراً آخر على الأهمية التي يوليها البلدان للعلاقة الثنائية بينهما انطلاقاً من مبدأ تبادل الاحترام والثقة»، معقباً: «الكويت شريكة مهمة لمالطا، ولا تنجم مكانتها عن العلاقة الثنائية القوية بين البلدين فحسب، بل تشتق أيضاً من المصالح الإقليمية المشتركة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في مجال الأمن والاستقرار».

وأكد دعم بلاده إعطاء أهمية متزايدة للعلاقات بين الاتحاد والخليج عموماً، ولا سيما مجلس التعاون، «ونظراً إلى تقارب المصالح الاستراتيجية بين الفريقَين، نحن نثق بقدرة الاتحاد والمجلس على طرح خطاب مثمر ومفيد للطرفين»، مثنيا على دور الكويت البنّاء كصوت داعم للحوار والسلام وجهود الوساطة في منطقة الخليج.

تماسك أوروبا

• المنتدى العالمي الثاني للسلام جاء بعد أيام قليلة من إطلاق روسيا عملية عسكرية شاملة ضد جارتها أوكرانيا... وثمة تفاوت دائم في المواقف العالمية... فما ردة الفعل الدولية المناسبة إذاً؟ وما موقفك الشخصي من هذا الهجوم؟

كان توقيت المنتدى مناسباً لأقصى درجة لأنه يعطي المتحدثين فرصة تقاسم آرائهم حول الأحداث المستمرة في أوكرانيا، يمكننا أن نتقاسم إذاً حزننا الجماعي إزاء الأحداث المريعة ميدانياً، أكثر ما يقلقنا طبعاً هو المحافظة على سلامة الشعب الأوكراني وراحته، فقد أصبحت حياته اليوم معرّضة للخطر أو تطغى عليها وقائع الحرب.

في 24 فبراير الماضي، استنكرتُ صراحةً غزو أوكرانيا وسأصرّ على إدانته مادامت الاعتداءات غير المبررة تتابع حصد الأرواح وتُهدد سلامة ملايين الأوكرانيين.

لقد كشف لنا هذا الغزو حقيقة لم يكن يتصورها أحد في القرن الواحد والعشرين، داخل القارة الأوروبية، خلال العصر الرقمي. لم يكن أحد منا، مستعداً لرؤية مشهد النساء والأولاد المرعوبين والمشرّدين بعد انفصالهم عن أقاربهم الرجال وسط الشتاء القارس. يجب ألا نبقى جامدين أمام كل ما يحصل.

وثمة تفاوت واضح في المواقف، كما تقول في سؤالك، لكن ذلك لا يعني أننا نستطيع تجاهل ما يحدث على اعتبار أن «القوة فوق الحق».

لقد تزعزع النظام الدولي في جوهره، لكنّ العزاء الوحيد الذي أجده في هذه المأساة هو نسيان أوروبا لخلافاتها في ملفات معينة وتحلّيها بشكلٍ مبهر من التماسك.

هذه هي أوروبا التي بناها أسلافنا خلال ظروف مشابهة بعد الحرب العالمية الثانية، ويجب أن نبذل جهوداً إضافية لضمان حرية وسلامة الشعب الأوكراني كله.

• على ضوء العلاقات الثقافية والتاريخية والروابط القائمة بين بلدكم والعالم العربي منذ عقود، كيف يمكن الاستفادة من هذا الوضع لتطوير تعاون ثنائي في مجالات الاقتصاد، والاستثمار، والثقافة، والسياسة وسواها؟

طوّرت مالطا منذ قرون علاقات وثيقة جداً مع العالم العربي، نظراً إلى موقعها الاستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط. على مر السنين، شملت هذه العلاقات بلداناً لا تقع في محيطنا القريب، على غرار دول الخليج، وتُعتبر الكويت بالذات نموذجاً ناجحاً في هذا المجال.

لا يقتصر سجلنا الممتاز في بناء العلاقات الثنائية على المستوى السياسي فحسب، بل إنه يشمل قطاع التجارة والأعمال والعلاقة المباشرة بين الشعوب أيضاً.

وبفضل نقاط التشابه اللغوية بيننا، إذ تعود جذور اللغة المالطية في الأصل إلى العربية، لطالما اعتبرنا محاورينا من العالم العربي شركاءً متجاوبين جداً ومستعدين للتعاون.

تفتخر مالطا بانتسابها إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2014، لكننا نتابع تطوير علاقاتنا مع نظرائنا العرب باعتبارهم شركاء مساوين لنا وأصحاب صفات خاصة.

لا تتابع مالطا إتمام هذه المهمة تحقيقاً لمصالحها الخاصة فحسب، بل خدمةً لمصلحة العلاقات الإقليمية عموماً. لهذا السبب، ستجدوننا في طليعة الداعمين للهياكل والمبادرات التي تقوي العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، وبين الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

• كيف تنظرون إلى اللاجئين في بلدكم؟

لا تزال مالطا قلقة من الضغوط التي ترافق موجات الهجرة من وسط البحر الأبيض المتوسط، علماً أن عدد الوافدين ارتفع بدرجة كبيرة بين عامي 2020 و2021.

لطالما اعتبرنا هذه المسألة من التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي ككل بدل أن تكون مسألة تخصّ عدداً صغيراً من الدول الأعضاء في الخطوط الأمامية.

بصورة عامة، ستكون متابعة التواصل مع بلدان المنشأ والعبور أساسية لكبح موجات الهجرة غير النظامية في جميع الطرقات. ويجب أن تتواصل جهودنا أيضاً في مجال إعادة اللاجئين وإدخالهم إلى البلدان، تزامناً مع دعم جهود إدارة الحدود مع الدول الثالثة.

في نهاية المطاف، ما زلنا نحتاج في الاتحاد الأوروبي إلى آلية متوقعة تضمن درجة عالية من التضامن عند الحاجة. لن تكون زيادة المسؤوليات على الدول التي يدخل إليها اللاجئون في البداية حلاً مستداماً.

باقة شكر

«لا يشكر الله من لا يشكر الناس»... باقة عطرة من الشكر والتقدير والعرفان تقدّمها «الجريدة» إلى مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية، لما بذلته في المنتدى العالمي الثاني للسلام، من جهود ومساعٍ مشرفة تليق باسم الكويت الغالية.

وخالص الشكر إلى الأمين العام للمؤسسة الأخ عبدالرحمن خالد البابطين، على ما قام به من جهود لتسهيل إجراء هذا الحوار مع الرئيس المالطي، فضلاً عما لمسناه فيه من سماحة وتعاون وبشاشة ودماثة خلق، وحسن وفادة، فله منا كل الاحترام والتقدير.