الغرب يُضعِف عقوباته بنفسه
تزامناً مع اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا، بدأ الغرب يستعمل واحدة من الأدوات القليلة التي يملكها في ترسانته، فوضعت الولايات المتحدة عدداً من الأوليغارشيين الروس والبنوك الروسية على القائمة السوداء، وحذت بريطانيا حذوها عبر حظر بنوك روسية ومنع شركات روسية من جمع الأموال من الأسواق البريطانية، كذلك أصدر الاتحاد الأوروبي ما اعتبره مسؤول السياسة الخارجية، جوزيب بوريل، "أقسى حزمة من العقوبات" في تاريخ الاتحاد، فهي تستهدف قطاعَي الطاقة والتجارة ومجموعة أوليغارشية روسية ظن الكثيرون سابقاً أن المساس بها مستحيل. كان الرد الغربي أقوى بكثير مما توقعه معظم الخبراء، وهو يُهدد بإغراق الاقتصاد الروسي في حالة من الفوضى، لكن ما لم يطبّق الغرب إصلاحات محلية بارزة، فقد لا تتأثر الكليبتوقراطية الإمبريالية الروسية كثيراً بالعقوبات التي تستهدف الشخصيات الأوليغارشية والرسمية المقرّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.يجب أن تبدأ الحكومات الغربية بإلغاء بند إخفاء هوية المساهمين في الشركات الوهمية، والمطالبة بأبسط إجراءات مكافحة تبييض الأموال بحق المحامين ومنظّمي المعارض الفنية ومديري المزادات العلنية، وإغلاق الثغرات التي تسمح بإخفاء هوية العاملين في مجال العقارات وصناديق التحوط وأصحاب الأسهم الخاصة، وكي تعطي العقوبات كامل مفعولها، يُفترض أن تُطبَّق إجراءات مكافحة الكليبتوقراطية فوراً.
سيكون إصلاح الشفافية العالمية عاملاً أساسياً لأن الشخصيات والكيانات التي تموّل حملة سفك الدماء الروسية ليست موجودة في شكلٍ من الفراغ الجيوسياسي ولا تنحصر سرقاتها في روسيا وحدها، فلا تتكل هذه الجهات بكل بساطة على سخاء الكرملين وروابطها معه، بل تستعمل أيضاً أدوات السرية المالية الغربية لإخفاء وتبييض ثرواتها غير القانونية، وزعزعة استقرار الأسواق، وتخريب السياسات الغربية. تُعتبر بريطانيا أبرز جهة تستفيد من المكاسب الروسية غير المشروعة، فوفق تقرير أصدرته منظمة "تشاتام هاوس" حديثاً، شاركت بريطانيا في تبييض أموال قذرة ومشكوك فيها وغير مشروعة تصل قيمتها إلى المليارات بعد الحقبة السوفياتية، وحصلت معظم هذه العمليات خارج روسيا، ونتيجةً لذلك، تدفقت الأموال الروسية المشبوهة إلى قطاع العقارات البريطاني، وسوق السلع الكمالية في لندن، وحتى خزائن حزب "المحافظين".في الاتحاد الأوروبي، أمضت فرنسا وإيطاليا سنوات وهما تتجنبان استهداف الشخصيات الأوليغارشية التي كانت تمضي العطلة على ساحل البحر المتوسط، وفي غضون ذلك، تابع السياسيون السابقون في ألمانيا والنمسا تقديم المساعدات إلى أي شخصيات أو كيانات مرتبطة بالكرملين حين تحتاج إلى خدمات كبرى، كذلك، بَنَت سويسرا بلداً كاملاً استناداً إلى مبدأ السرية المالية، وحتى الدول النظيفة ظاهرياً، مثل الدنمارك والسويد، راقبت تحوّل قطاعها المصرفي المحلي إلى أداة للأموال القذرة التي تخدم العملاء الروس الفاسدين. حتى الولايات المتحدة تحولت في العقود القليلة الماضية إلى أهم معقل للسرية المالية في العالم من دون أن يتنبه عدد كبير من الأميركيين لما يحصل، فقدّمت خدمات مبنية على إخفاء هوية العملاء إلى الكليبتوقراطيين في موسكو وجميع أنحاء العالم، مما سمح لهم بمتابعة عمليات تبييض الأموال العابرة للحدود. طالما تبقى السياسات التي تُسهّل تدفق الأموال القذرة حول العالم على حالها، لن تُحقق العقوبات النتائج المتوقعة، لكن بدأ الوضع يتغير في الأيام القليلة الماضية على الأقل، ففي واشنطن، أعلن الرئيس جو بايدن في خطاب حالة الاتحاد في الأسبوع الماضي إنشاء فريق عمل لمكافحة الكليبتوقراطية واستهداف الأوليغارشيين، وأعلنت حكومة بوريس جونسون في لندن خلال اليوم نفسه طرح مشروع قانون خاص بالجرائم الاقتصادية في البرلمان أخيراً. لكن لا شيء يضمن إحراز تقدّم حقيقي في هذا المجال.في النهاية، يجب أن يفرض صانعو السياسة الغربية أكبر قدر من العقوبات في أسرع وقت طبعاً، لكنهم مضطرون أيضاً لتسريع تدابير مكافحة الكليبتوقراطية لمنع الشخصيات والكيانات الروسية من تجنّب العقوبات عبر القنوات الخلفية الغربية، وإذا لم تترافق الإجراءات المتخذة ضد روسيا مع إصلاحات محلية، فلا مفر من تلاشي فاعلية العقوبات بسبب الدول الغربية التي تدّعي الصدمة من عودة زمن الإمبراطوريات وتجدّد الحرب في أوروبا.