أكتب هذه السطور من العاصمة الألمانية "برلين"، حيث لا دين هنا سوى المال ولا قيمة أو قوة للإنسان تعطى أو تقاس إلا بـ"اليورو" الذي تدهورت حاله كما يبدو هذه الأيام (لسبب أو لآخر) مع حالة الحرب الأخيرة بين أوكرانيا وروسيا، واشتعلت مع ذلك أسعار السلع و"الخماچير" في الأسواق. لكن إن كانت هذه حال "ألمانيا" في ما يخص الدين ونظرة الشعب أو أغلب جيله الصاعد له، فما الحال والواقع في دول كدولنا الشرق أوسطية، حيث تُشكل الأديان وبالأخص الدين الإسلامي "محوراً" لكل نقاش وأمور حياتية يومية، وعليه فإنه ليس من السهل بتاتاً أن يتم التطرق لأمور الدين في مجتمعات كمجتمعاتنا البتة، ولا يستطيع المرء أن يحاور أيا كان في أموره إلا وجد "جدار برلين" في التزمّت والتعصب يصل إلى ردود إقصائية في الحوار والنقاش؟
لكن كمتابع ومراقب للشأن المصري وعن كثب لفترة تزيد على خمس عشرة سنة الآن، لفت انتباهي أنه خلال العقد المنصرم وبعد تعليمات الرئاسة المصرية بضرورة تجديد الخطاب الديني وتنقيح النصوص التراثية والحث على المواطنة المتساوية في كل أمور الحياة، خصوصا أن دستوراً جديداً قد تم التصويت عليه هناك في "المحروسة" فكان من المنطقي والبدهي أن تحث القيادة هنالك على مثل تلك الأمور المهمة جداً في المجتمعات المدنية، وإني لعلى قناعة كذلك أن جمهورية مصر تمثل العمق العربي-الشرق أوسطي ونبض الشارع السياسي، فأي أمر يحصل هناك تجده ولو بعد حين قد شق طريقه إلى البلدان العربية، ولعل خير دليل على ذلك هو تصريح ولي العهد السعودي الأسبوع المنصرم عن مشروع تنقيح الأحاديث النبوية ودراستها، وتدشين مشروع وطني على مستوى المملكة ينتهي بعد سنتين بغية ذلك الأمر. وبعد هذا وذاك، لاحظت على المستوى الشخصي أن هنالك أصواتاً قد تعالت في الكويت مطالبة المسؤولين بضرورة اتخاذ خطوات مماثلة تتمحور حول "تجديد الخطاب الديني للدولة"، وإن لم تدرك تلك الأصوات معنى ومفهوم تلك المطالبات ولا حتى مسماها الصحيح. مبدئياً وجب توضيح بعض الأمور هنا قبل البدء بطرح وجهة نظري الشخصية عن حالة الكويت والخطاب الديني، وعليه من الضروري أن أشيد بالتجربة المصرية في هذا المجال، حيث تمكنت مصر من تجاوز تلك المرحلة بذكاء واحتواء كل المطالبات والتوجهات تزامنا مع وجود قيادة جديدة لديها، بل استطاعت جمهورية مصر أن تحتوي أصوات النشاز والتطرف من كل الأقطاب، خصوصاً أنها تتعامل مع عدد كبير من الجماهير وتواجه تحديات إقليمية واقتصادية جمة ومصيرية، ولكن إن أردنا في الكويت أن نعيد التجربة وفي هامش للحريات ضئيل جدا، ودستور وجب تنقيحه وتعديله منذ ستة عقود وأكثر، فكيف ستكون الحال؟!مراجعة النصوص الدينية وتثبيت الصحيح منها وإزالة الغشاوة عن ضعيف الرواية ورفع وعي الشارع يحتاج إلى هامش كبير جداً من الحريات، وعدد كبير جداً من المؤتمرات الوطنية، وحلقات نقاشية، وتدشين مشروع وطني يحتضن كل الأديان في الدولة بجميع المذاهب والتوجهات حتى يتسنى لمثل تلك التجربة أن تحظى بشعبية كبيرة، وأن يتبناها الشعب ذاته، فإن تمت على وجهها الصحيح فسنجد أن النسيج الاجتماعي والسياسي قد ترابط أكثر والتف الشعب على مكوناته بصورة أعظم وأقوى مما هو عليه الآن، ولذلك وجب تعديل القوانين والنصوص التي تقيد حريات الناس وترك فسحة للتعبير دون أية ملاحقات أو محاسبات آجلة أو عاجلة، وإن لم يعجبنا الحديث المطروح للنقاش، ولعل كل ذلك جيد بل مثالي إن تزامن مع تنقيح للدستور الكويتي بهدف تطويره وجعله مواكباً للعصر والزمن. يفكر المرء ألف مرة في كتابة تغريدة على منصة "تويتر" وألف ألف مرة في كتابة مدونة أو مقال صحافي، فكيف إذا كان نقاشاً دائراً وذا مرجعية مدونة لنصوص تحوي الأديان والمذاهب متزامنة مع تنقيح دستوري؟! لذلك من الضروري والواجب أن تتم مراجعة هامش الحريات في الكويت وإعطاء الشعب إحساساً بأن النصوص القانونية لا تستخدم ضدهم البتة، ولعله بعد ذلك يمكننا أن نجدد خطابنا الديني، وأن نجعل الدستور والبرلمان والقوانين تحتوي الأديان كافة.
مقالات
تجديد الخطاب الديني
17-03-2022