إن المشكلة التي تعانيها المجتمعات في كل زمان ومكان تكمن في التابع المتسلط لا في المتبوع المقتدر، وفي كلاب الحراسة لا في الحراس أنفسهم، فلم يكن عنترة متسلطاً على قومه بل ملاذهم، لكن شيبوب الذي صار يلاقي بهيبة عنترة السباع كان المشكلة التي وضعت مجتمعه أمام معضلة التعدي الذي يمارسه التابع المتسلط اعتماداً على هيبة المتبوع القوي، واكتساب شيبوب مهابة لا يستحقها لأجل خاطر عنترة المستحق للهيبة.ومن حكايات ألف ليلة وليلة أن علي جناح التبريزي كان زعيم تجار بغداد السخي المحبوب المهاب، لكن التابع قفّة الذي استغل هيبة (عمّه) التبريزي كان نموذج المتسلط الذي وضع تجار بغداد في مأزق سهولة كبح جماح التابع لولا تقدير المتبوع.
وأذكر قبل سنوات أن مجموعة عمال بناء (صعايدة) كانوا يقدّرون زميلهم العامل بشكل لافت، فسألتُ أحدهم عن ذلك، وأخبرني أن هذا العامل (هواري)، وهو وصف لأسرة ذات جذور عريقة في جنوب الصعيد، وسألته أيضاً عن العامل الآخر سليط اللسان الذي يتدخل بكل صغيرة وكبيرة دون أن يوقفه أي منهم عند حده، فأخبرني أنه لا قيمة له سوى قرابته من هذا الهواري وسكوتنا عن هذا لأجل عين ذاك.والحقيقة أن قضية الأصل والفصل لا أهمية لها في المجتمعات المدنية إذا احتفظ الأفراد بحد أدنى من المعايير القيمية التي تقوم على أساس من أنت لا على أساس افتراءات ينتج عنها إجابات كاذبة لسؤال متعارف عليه في الزمن الماضي (من أبوك؟)، فأنسب المعايير المناسبة للمجتمعات الراقية أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وخير الناس أنفعهم للناس، لكن تخريب هذه المعايير يبدأ حين يصبح (الردي) الأكرم وغير التقي الأفضل ومن لا نفع فيه خير الناس، ورغم أن الناس ليسوا بالسذاجة أو الضعف الذي يجعلهم يسمحون بـ(خرابيط) كهذه تسود، وإمعات كهذه تتقدم الصفوف، لكن المشكلة تكمن في مأزق قفة وشيبوب اللذين يضعان المجتمع في معضلة احترام عنترة والتبريزي واستغلال الاحترام في محاولة تحقيق مكاسب شخصية على (ظهر) المعازيب، فيصبح رديء الأصل هواريّاً والقفة تبريزياً والشيبوب عنترياً.ولو تفاضل الناس بفضائل حقيقية ذات قيمة ملموسة، كما لو تفاضل التاجر بماله والعالم بعلمه والشهم بشهامته وعريق الأصل بعراقة أصله لما كان في الأمر عيباً، لكن ما يجعل القيم لا تُهاب والقواعد الاجتماعية لا تُحترم تباهي النكرة بما ليس فيه وانتقاصه من الأكارم مما فيهم، وأسوأ من ذلك حين يكون المجتمع سلبياً أمام هذه القاعدة المقلوبة فلا ينكرها، وأسوأ من الأمرين حين يسكت أهل الحق عن حقهم ولا يرفضون هذا الواقع المقلوب ما استطاعوا، لأن تكرار هذا الواقع الخاطئ باستمرار يسهم في تكريسه كقاعدة، وإهمال الحقائق باستمرار يسهم في إلغائها من الذاكرة المجتمعية، خصوصاً في مجتمعات تفتقد في بعض الأحيان والظروف معايير تمييز حقيقية وواقعية وتكون ذاكرتها الكلية قصيرة جداً.
مقالات - اضافات
وجهة نظر: معايير مقلوبة
18-03-2022