زعمت روسيا، دون دليل، أن الولايات المتحدة تدير مختبرات للحرب البيولوجية في أوكرانيا، ونفت الولايات المتحدة هذه الادعاءات واصفة إياها بأنها "منافية للعقل"، وحذرت- إلى جانب قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو)- من أن الكرملين ربما يسعى إلى اختلاق ذريعة لاستخدام الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية في هجومه العسكري ضد جارته أوكرانيا، وفي وقت سابق، قالت أوكرانيا إنها، مثلها في ذلك كمثل العديد من البلدان الأخرى، لديها مختبرات للصحة العامة مكرسة للبحث في كيفية التخفيف من تهديدات الأمراض الخطيرة التي تصيب الحيوانات والبشر.في الحادي عشر من مارس اجتمع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بناء على طلب من روسيا لمعالجة هذه القضية، لكن روسيا كانت عاجزة مرة أخرى عن تقديم أي دليل معقول يؤكد ادعاءاتها، وأطلعت الأمانة العامة للأمم المتحدة أعضاء مجلس الأمن الدولي على اتفاقية الأسلحة البيولوجية لعام 1975، وأشارت إلى إمكانية استخدام آلية تشاور عندما تنشأ شكوك حول الامتثال.
في ظل هذه الظروف، من غير المرجح أن تأخذ مثل هذه المشاورات مجراها بين روسيا وأوكرانيا، والواقع أن منظمة الصحة العالمية، التي من الواضح أنها تعتبر جانب أوكرانيا من القصة أكثر مصداقية، نصحت أوكرانيا بتدمير مسببات الأمراض الشديدة الخطورة في مختبرات الصحة العامة لديها من أجل منع إطلاقها على نحو عارِض غير مقصود نتيجة للمعارك الدائرة.لكن ماذا عن الأسلحة الكيميائية؟ في تقييم مخاطر استخدامها في أوكرانيا، ينبغي لنا أن نتذكر أحداثا رئيسة حديثة، وخاصة في سورية، حيث استُـخدِمَـت الأسلحة الكيميائية في مناسبات عديدة أثناء الحرب الأهلية هناك، وفي سبتمبر 2013، قررت آلية الأمين العام للأمم المتحدة، التي أطلقها الأمين العام آنذاك بان كي مون على أساس المحظورات الواردة في بروتوكول جنيف لعام 1925، أن غاز الأعصاب سارين استُـخـدِم في الشهر السابق في منطقة الغوطة الواقعة على أطراف دمشق، وأسفر الهجوم عن وفاة أكثر من 1400 مدني.بعد اتفاق أُبـرِم بين روسيا والولايات المتحدة، وافقت سورية على التخلي عن أسلحتها الكيمائية وانضمت إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في أكتوبر 2013، وكان هذا يعني أن سورية أصبحت خاضعة للتدقيق من قِـبَـل آلية التحقق الشامل التابعة لاتفاقية الأسلحة الكيميائية.في وقت لاحق، أكدت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية استخدام الأسلحة الكيميائية في مواقع أخرى في سورية، وحددت آلية التحقيق المشتركة التي أنشأها مجلس الأمن الدولي في أغسطس 2015، ثم في وقت لاحق حدد فريق التحقيق وتحديد الهوية الذي أنشأه مؤتمر الدول الأطراف في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في يونيو 2018، الحكومة السورية على أنها مسؤولة عن استخدام الأسلحة الكيميائية في عِـدة مناسبات.ورغم أن الدول الأطراف علقت تصويت سورية وغير ذلك من الحقوق في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في عام 2021، فإن اتخاذ المزيد من الإجراءات من جانب مجلس الأمن الدولي أمر غير مرجح بسبب المعارضة الروسية، الواقع أن روسيا دعمت الحكومة السورية بشكل كامل في المحافل الدولية بعد تدخلها العسكري في الحرب الأهلية في سورية في سبتمبر 2015.في إطار منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، أطلقت روسيا وقِـلة من بلدان أخرى حملة منسقة للتشكيك في مصداقية نتائج التحقيقات المختلفة، فلفقت روايات عديدة، متناقضة أحيانا، من أجل غرس بذور الارتباك والشك في أذهان أطراف ثالثة بشأن مسؤولية الحكومة السورية عن هجمات الأسلحة الكيميائية، وحاولت بإصرار التشكيك في التقارير القائمة على العِـلم التي كانت كافية لإثبات الحقائق، ووفقا لبعض الروايات الروسية، استخدمت جماعات المعارضة المسلحة في سورية الأسلحة الكيميائية على نحو يجعل الحكومة السورية المدعومة من روسيا تبدو مسؤولة عن استخدامها.زعمت الحكومة السورية أنها لم تكن في احتياج إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، لأنها لديها قدرات تقليدية كافية لقمع جماعات المعارضة المسلحة، لكن الخبراء العسكريين رأوا خلاف ذلك، ففي بعض المناطق حيث تعثر الجيش السوري، ساعد استخدام الأسلحة الكيمائية في ما يبدو في خلق حالة من الذعر والرعب بين المدنيين، وإحباط معنويات قوات المعارضة، والاستيلاء على المناطق التي تسيطر عليها بأقل قدر من الخسائر بين أفراد الجيش.علاوة على ذلك، لم يقتصر استخدام الأسلحة الكيميائية مؤخرا على سورية، فقد استُـخـدِم غاز الأعصاب نوفيتشوك لتسميم العميل المزدوج الروسي سيرغي كريبال وابنته يوليا في عام 2018 في المملكة المتحدة، وخصـم الكرملين أليكسي نافالني في عام 2020 في روسيا، وفي عام 2017، قُـتِـل الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون باستخدام غاز الأعصاب VX في مطار كوالالمبور.الواقع أن روسيا، التي ورثت أكبر مخزون من الأسلحة الكيميائية في العالم من الاتحاد السوفياتي، ليس من المفترض أن يكون لديها أي منها الآن، إلى جانب دول أخرى، كانت روسيا ملزمة بالإفصاح عن كل الأسلحة الكيميائية في حوزتها لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وتدميرها، تحت رقابة المنظمة وإشرافها للتحقق من الامتثال، الذي حدث في نوفمبر 2017، لكن الاستخدامات اللاحقة لغاز الأعصاب نوفيتشوك (وإن كان ذلك بكميات ضئيلة للغاية) والمنسوبة إلى روسيا، أثارت الشكوك بأنها ربما أخفت بعض مخزونها.إذا كان الأمر كذلك، فهل تستخدم روسيا الأسلحة الكيمائية في أوكرانيا، خصوصا لو طال أمد الحرب؟ أو هل ينبغي لنا أن نستبعد هذا الاحتمال، لا سيما في ضوء الردع القوي الذي توفره آلية تحديد المصدر المعززة التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية؟من المؤكد أن إجراءات التحقق في إطار التحقيقات في استخدامات الأسلحة الكيميائية المزعومة أصبحت أكثر اقتدارا، وتطورا، وفعالية، الواقع أن الدول الأطراف في اتفاقية الأسلحة الكيميائية عازمة على منع أي استخدام آخر، ومنذ يونيو 2018، بات من الممكن استحضار آلية تحديد المصدر إذا وردت مزاعم جديدة بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية في أي من الدول الأطراف.في البيان الذي ألقيته بصفتي مديرا عاما لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في الجلسة الافتتاحية لذلك الاجتماع في عام 2018، قلت: "إن استخدام الأسلحة الكيميائية، أينما حدث، يُـعَـد جريمة خطيرة تتطلب تحركا حازما". ثم أضفت فضلا عن ذلك: "إذا تمكن الجناة من تجنب المساءلة فلن يتسنى لنا ردع عودة المواد الكيميائية المحتملة وقبولها كأسلحة للحرب والإرهاب".وأنا أدعم هذا البيان اليوم، إذ يجب أن تتحمل كل الدول المسؤولية الجماعية عن منع استخدام الأسلحة الكيميائية من قِـبَـل أي شخص تحت أي ظرف من الظروف، بما في ذلك في أوكرانيا، ولكن إذا فشلنا في القيام بذلك، فأنا على يقين من تحديد المسؤولين ومحاسبتهم.* مشارك في شبكة القيادة الأوروبية، وهو المدير العام الأسبق لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
مقالات
هل تُـستَخدَم الأسلحة الكيميائية في أوكرانيا؟
20-03-2022