بدأت فكرة منتدى الطليعة في مبنى جريدة الطليعة وهي متوقفة عن الصدور، وبانتظار حسم ملكيتها أو "بيعها"، وهو ما حصل في نهاية المطاف.

استمزجت مع د. أحمد الخطيب يرحمه الله (1927-2022) فكرة دعوة ضيف كل أسبوع في ديوانية الطليعة، ذلك المختصر الصغير الواقع على يمين مدخل مبنى صحيفة الطليعة ذات التاريخ العريق، فتقرر ذلك كل يوم سبت، لأنه يوم عطلة، لكوني أعمل صباحاً، فحصلت على دعمه ومباركته، فهو مُحب للنقاش والتنوير، واستمر المنتدى في استضافة مدعويه من كل تخصص وهواية واهتمام؛ رجالاً ونساءً وشباباً من مختلف الأهواء، بلغ عددهم أكثر من 150 ضيفاً، كانوا يفرحون بمجرَّد لقائهم بـ"الحكيم".

Ad

وعلى المستوى الشخصي، تعرَّفت على الكثيرين من وجهاء وشباب الكويت، ومَنْ كان يزور الكويت من خارجها، ليكون أحد ضيوف المنتدى.

البداية الأولى كانت مع ممثلين لمنظمة العفو الدولية، كان ذلك في صباح يوم 17/ 12/ 2015 ناقشوا معنا مستجدات الحياة السياسية في الكويت، وانتهينا بآخر لقاء بتاريخ 15 /1/ 2022 باستضافة الملحن والموسيقي د. أحمد الصالحي، لشرح أصل الصوت الكويتي، وتخلل ذلك عزف على العود والمرواس. وبين اللقاءين عشرات المواضيع والشخصيات الفريدة والرائدة في اهتماماتها، كانوا ضيوف المنتدى طوال الأعوام من 2015 حتى أول شهر من 2022 باستثناء عام 2020، حيث اشتدت إجراءات مواجهة فيروس كورونا اللعين، الذي أبعد الناس عن بعضهم البعض.

هنا لن أتطرَّق للجانب السياسي والنضالي للدكتور الخطيب، لأن هناك مَنْ هم أفضل مني وأقرب له في هذا الشأن، لكنني سأتطرَّق لمسائل شخصية ذات صلة بخصاله وتعامله السلوكي مع مُحبيه ممن يتواجدون معه يومياً، أو ممن يزورونه بمكان وجوده في «الطليعة»، ولاحقاً (ومنذ أكتوبر 2021) في ديوانه بمنطقة الشويخ، وكنت شاهد عيان على ذلك.

وقبل أن أبدأ بسرد ما أختزنه من ذكريات مع هذه القامة الكويتية - العربية.

حرصت على ترتيب حوار يوم السبت طوال ٦ سنوات، بمعاونة أحبائي في المنتدى (هيا المقرون، ضاري المير، منال جاسم)، ولا أنسى شمعة المنتدى الأخت الغالية د. سعاد المعجل، التي تسعدنا بحضورها وشغفها للنقاش وبدلة القهوة وحبات التمر التي تُحضرها دوماً معها، لتكون إضافة لمائدة د. الخطيب، وأيضاً الشاب أحمد الشهابي، الذي ساهم بتوثيق جلسات المنتدى بتصويره الفوتوغرافي، وشجعنا على إنشاء حساب خاص بالحوارات على «إنستغرام» (altaleea_fourm)، والذي تديره الأخت هيا المقرون تطوعاً.

أما زميلنا غامني من الهند، والذي رافقنا في جميع جلساتنا دون انقطاع، حيث يقوم بخدمة الضيوف بتقديم الشاي والقهوة بكل نشاط، فهو أحد الوجوه المألوفة التي تواجدت لسنوات طويلة في «الطليعة» كصحيفة، ولاحقاً في مجلسنا الحواري، فله كل التقدير.

كنت حريصاً على القدوم مبكراً للمكان، لأنني أعرف أن د. الخطيب يأتي مبكراً- حوالي التاسعة والنصف – أي قبل بدء المنتدى الذي يبدأ الساعة 11 صباحاً – مع استثناءات نادرة كانت تجبره على الذهاب إلى عزاء أصدقاء ومعارف له من أهل الكويت، وحين يصل إلى مكان جلوسنا، وهو في كامل أناقته، يدخل، فيقف لبرهة وينظر وقد ضعف نظره، ليرى مَنْ سبقه في الحضور، فيبتسم ويُلقي السلام، ويجلس على كرسيه بصمت، بعدها ينطلق في أحاديثه بصوت خفيض، ويبرر تأخيره بذهابه لتقديم واجب العزاء. وكنت أقتنص لحظات ما قبل حضور الضيف ورواد المكان للحديث عن أمور تُسعد النفس، كطلعات البر في الربيع، وسوق الفقع والسمك، أو الإنجازات التي يقوم بها الشباب الكويتيون، الذين يعشقهم كثيراً ويشجعهم، أو تناول الأطعمة المُحبَّبة وهكذا، لعلمي بأنه - رحمه الله - يتجاوب بشكل إيجابي مع مثل هذه الأمور، لأنه شخصية مرحة ومُحبَّة للحياة، ولا يخلو الحديث حول مثل هذه الأمور من ضحكاته المعهودة. كان يسرد قصص جولاته بالسيارة في رحلة في البر مع أسرته، أو تناول طعام موسمي مُحبَّب له.

كنت حريصاً على انتقاء المواضيع التي تُسعدنا وتُفرحنا في ساعات الصباح الباكر، لأنني على قناعة تامة بأن تقدُّم السن لأي إنسان يجب أن يكون محل تقدير واهتمام شديد من قِبل مُجالسيه من باب إنساني وسلوكي يبعده عن نكد الحياة وتكاليفها، خصوصاً لشخصية كالدكتور الخطيب، الذي ناله الكثير من الضغوط وتعب المسيرة الطويلة، حيث دفع ثمنها غالياً مع رفاقه وأسرته طوال سنوات نضاله.

ومن الأمور الجميلة والسلوك المُعتاد لديه الوقوف لأي ضيف يدخل عليه، تعبيراً عن الاحترام، رغم كِبر سنه وثقل حركته في السنوات الأخيرة من عُمره، وكان بذلك يسبِّب لضيفه أو المُقبل عليه خجلاً وحياءً من طريقته النبيلة في الاستقبال.

كان قليل الكلام في منتدى الطليعة، وأظن أنه كان يقصد من ذلك ترك الحوار للحضور، حتى لا يُلقي بثقله وتاريخه العريض ليتسيَّد النقاش. كان يتحاشى ذلك، وعندما يستمع للشباب والكبار يناقشون ضيف المنتدى كان يستمتع بمداخلاتهم، ويعلِّق عليها مستحسناً، إلا أن ذلك لا يعني أنه لم يكن يشارك البتة في النقاشات.

ومن الطريف أنه عندما يريد ذلك كان يستأذن بإشارة مؤدبة من يده، ليلقي مداخلته، فيكون الجميع في صمت واستماع لما سيقوله «الحكيم»، وكالعادة تكون معلوماته مختلفة وغزيرة، ويستمع لها معظم الحضور لأول مرة.

د. الخطيب مُدخن، لكنه يراعي غير المدخنين وتضايقهم من رائحة التبغ، كان ينسحب بكل هدوء ويدخل مكان المطبعة في مبنى «الطليعة» ليدخن سيجارة، ويعود لمجالسيه مرة أخرى. وخلال جلسة قد تمتد من التاسعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً لم يكن يدخن سوى سيجارة واحدة فقط، وكان يحرص على شرب الشاي بالحليب في كوبه المُعتاد مع قدر قليل من قطعة بسكويت أو كعك أو موالح أحياناً، فمجلسه عامر بالطعام والحلويات التي يأتي بها من بيت الأسرة، ويُحضرها بشكل دائم للضيوف، وبشكل يومي.

يهتم الدكتور بالخبر العلمي المتعلق بالطب أو الاهتمام برفاه الإنسان الصحي، وكان يقرأ الكثير منها في الصحف والمجلات الأجنبية، وينقلها للحضور بكل شغف. كما كان يهوى الأسئلة الفلسفية والتفكير العلمي والمنطقي لمسائل الحياة. ومن مراجعاته الذاتية، قوله إن أي إنسان معرَّض للندم على تصرف ما أو فعل معيَّن وهو في بدايات فورة الشباب، وما تقدم السن إلا نعمة تنعكس على السلوك إن صادف وجود الحكمة والتبصر.

كان يكره المجاملة في غير محلها ويبغضها، ويستحسن أي نقد يوجَّه له على رأي أو حديث يُدلي به، ولم يكن من الذين يفرحون باستخدام القسوة، حتى لو كان في موقع قوة (سياسية – برلمانية)، لذلك – كمثال - كان يردد بين فترة وأخرى عدم حماسه لاستجواب الوزراء، وقد شرح أسباب ذلك في كتابه (من الإمارة إلى الدولة).

مؤمن بدور الشباب في التغيير، وكان يُذَكر بالثورة البرتقالية التي انطلقت في أوكرانيا عام 200٤، وكيف استطاعت ربط الشباب في مختلف دول العالم ومن دون تخطيط متعمَّد بسبب تكنولوجيا التواصل الإلكتروني. كان يستحسن حركات التغيير الشبابية التي لا تتعلق بشخوص وقادة محددي الأسماء. كان يرى في الحركة الجماعية ضمانة للتغيير المُحقق.

يُغضبه الحديث والخوض في أعراض الناس أو استسهال إطلاق الأوصاف الجارحة لأسماء ما، حتى إن كان يختلف معهم. كان يتدخل بحسم في وقف مثل هذه الأحاديث من قِبل أي متحمس أو مندفع في مجلسه. له قول معهود في هذه الأوضاع، كان يقول: «لا تذكر أسامي، خلك في الموضوع، ولا تجَرِّح».

من قفشاته الطريفة في مجلسه أن مَنْ كان يطيل الغياب أو يسافر لمدد طويلة كان يواجهه ببعض كلماته الأبوية، مثل: «لازم نسحب جواز سفرك»، أو «مو على كيفك تغيب هالمدة». وفي مثل هذه المواقف كان يطلب مني أحياناً أن أتصل بأشخاص ونحن جلوس، ليطمئن عليهم، ويعرف سبب غيابهم... وكثير من هؤلاء في سن الشباب. كان أباً حنوناً يرحمه الله.

وفي إفصاح طريف له، وكنا ذات يوم قد استضفنا عميد المعهد العالي للفنون الموسيقية الأسبق د. حمد الهباد، الذي كان يتحدث عن الأغنية الشعبية الكويتية، فسأله أحد الحضور عن الصوت المحبَّب له، فتردد في الإجابة، وبعد إلحاح من البعض، قال: الفنان سعود الراشد.

وفي موقف آخر أسعده وضحك له كثيراً حينما استضفنا في المنتدى خبير الأرصاد الجوية عيسى رمضان، فسأله الدكتور: متى أقرب مطرة؟ فرد عليه الخبير رمضان: يوم الأربعاء المقبل متوقع هطول المطر، وحدث ذلك فعلاً، وحين التقينا السبت اللاحق ذكّرتُه بتنبؤ الزميل رمضان، وضحك طويلاً، وقال: «صدق عيسى رمضان، وكانت مطرة حلوة»، وقد بدت عليه مشاعر حُبه للمطر، الذي دائماً ما يذكِّره بكل عشق وحب.

يتبع الحلقة الأخيرة

● مظفر عبدالله