في الحلقة الثانية عشرة من كتابه «الكويت من الإمارة إلى الدولة» يواصل الرمز الوطني الراحل د. أحمد الخطيب، سرد ذكرياته عن تشكيل أول وزارة في تاريخ الكويت، ومشاركة ثلاثة وزراء من غير أبناء الأسرة فيها، وهم عبدالعزيز الصقر، وحمود الزيد الخالد، ومحمد النصف، ويعرض طلب الشيخ عبدالله السالم من أعضاء المجلس التأسيسي ترشيح ولي للعهد، خاصة أن الأسرة لم تكن متفقة على مرشح واحد، نائياً بنفسه عن التفرد بالقرار. ويروي الخطيب قصة طلب الشيخ صباح السالم مشاركته وجاسم القطامي وسليمان خالد المطوع في الحكومة بناءً على توصية من الشيخ عبدالله السالم، وكيف اعتذر عن ذلك، وعما إذا كان القرار صائباً أم لم يكن كذلك.
كما يتناول في سرده علاقة الشيخ عبدالله السالم بأسرة آل الصباح، واختلافات وجهات النظر في مدى تنازله عن هامش كبير من صلاحياته، مفنّداً في هذا السياق وجهات النظر القائلة بذلك، وحقيقة بعض المواقف وتأكيده حرص الشيخ عبدالله السالم على العائلة ونظرته إلى مستقبلها واستقرارها. وعن ممارسات الحياة النيابية، يوضح الخطيب رأيه في الحق الدستوري بممارسة الاستجواب، وكيف أنه لم يمارسه طوال حياته النيابية لرفضه أن يتحول الخلاف أو الاختلاف في وجهات النظر إلى «محارب» كالذي كانت تشهده «الفرجان» في الكويت قديماً، ثم يتحدث عن الأزمة الوزارية الأولى وموقف الشيخ عبدالله السالم منها، وفيما يلي التفاصيل:
أجد أنه من الأهمية بمكان التوقف عند أول وزارة شُكّلت بعد انتخاب المجلس التأسيسي. الوزارة كان فيها (11) شيخاً وثلاثة من الكويتيين هم عبدالعزيز حمد الصقر وزيراً للصحة وحمود الزيد الخالد وزيراً للعدل ومحمد النصف وزيراً للأشغال، ومع ذلك كان الكل يعرف ثقل هؤلاء الوزراء وتأثيرهم في القرارات المهمة. لا شك في أنهم كانوا من رجالات الكويت البارزين ولم يكونوا بحاجة إلى وجاهة كرسي الوزارة، وتطوعوا للمشاركة في الحكم بسبب دورهم في الحركة الإصلاحية في الكويت ورغبتهم في دعم العملية الإصلاحية وتعزيز التجربة الديمقراطية. ولكن كيف نجحوا في ذلك؟في وقت مبكر من عملهم في الوزارة عُرض في مجلس الوزراء اقتراح بإقرار ملكية أرض لأحد الوزراء الشيوخ، كانت البلدية قد رفضت طلب هذا الوزير بتسجيل هذه الأرض له لأنه لا يملكها. أثار هذا الموضوع جدلاً في مجلس الوزراء من قبل الوزراء الثلاثة، وهنا طلب حمود الزيد بأن ترفع الجلسة للاستراحة وتناول الشاي وتمّت الموافقة على طلبه، فاختلى بالوزراء الكويتيين وقال لهم ما يلي: نحن ثلاثة والشيوخ (11) وهم يشكلون الأغلبية، وإذا تركنا الموضوع للتصويت فالكفة لهم وعندها ستمرر أمور أخرى دون أن يكون لنا أي تأثير.فدعونا نقترح بأن تكون قرارات مجلس الوزراء بالإجماع، وعندها ستكون لنا القدرة على نقض أي قرار لا نرى فيه مصلحة عامة. وهنا كلفوا حمود الزيد لمقابلة جابر الأحمد ونقل هذا الرأي له وقال له: إن لم تتم الموافقة على هذا الاقتراح اعتبرنا مستقيلين من المجلس من هذه الساعة، وسوف نترك سيارة الوزارة ونذهب مشياً إلى بيوتنا. فقام جابر الأحمد بالاتصالات اللازمة وتمّت الموافقة على هذا القرار. هؤلاء الوزراء كانوا من الإصلاحيين المعتدلين وقريبين من عائلة الصباح، كانوا رجالاً بكل معنى الكلمة، ولو أن هذا العرف التزمه من خلفهم لما وصلنا إلى هذا الوضع البائس.
ممارسات نيابية بحاجة إلى إعادة نظر
عندما انتُخبت نائباً للرئيس في المجلس التأسيسي أعطوني جوازاً دبلوماسياً أحمر، وعندما سافرت لشهر العسل أخذته معي وسافرت إلى بريطانيا ثم فكرنا في التجوال في بعض الدول الأوروبية التي لم نزرها بعد، فقررنا أن نذهب إلى النمسا وإيطاليا. ذهبت إلى السفارة النمساوية في لندن لأخذ فيزا فأعطوا زوجتي فيزا أما أنا فقالوا بأنه يجب عليّ أن أذهب إلى سفارة الكويت أولاً وهم يقومون بالواجب، فقلت لهم: لماذا؟ فقالوا: بما أنك رجل مهم لبلدك فحكومتك يجب أن تعرف مكان وجودك حتى إذا احتاجت إليك اتصلت بك بسرعة. وخجلت أن أقول لهم بأن حكومتي ليست بحاجة إليّ وتفضل أن لا ترى وجهي إطلاقاً، كذلك فإن علاقتي بالسفير آنذاك لم تكن على ما يرام. زوجتي تأخذ فيزا بسهولة وأنا أتعرض لهذه البهدلة! على كل حال تركت السفارة وأنا أشتم هذا الجواز. وعندما وصلت النمسا بعد حل هذه المشكلة وجدت استقبالاً غير عادي، حتى إنهم في الفندق يسمونني بـ Prince أي أمير. والأمير خصوصاً إذا كان من بلد نفطي يعني أنه يحمل الملايين من الدولارات ويحب اللهو وتبذير الأموال على موائد القمار وغيرها، ويصرف بجنون لأن هذه الأموال لم يتعب في الحصول عليها، فالنفط يخرجه الأجانب من الأرض وهم يبيعونه وما على الأمراء إلا صرف هذا الدخل بالطريقة التي يرونها، لذلك تكون نظرة هؤلاء الأجانب إلينا نظرة دونية ويتوقعون منا السخاء المفرط والأهبل. وحتى عند توجهنا إلى إيطاليا وجدت من وصل إلى داخل الطائرة لاستقبالي، فلعنت الساعة التي أخذت فيها الجواز الدبلوماسي. لذلك عندما رجعت إلى الكويت كان أول عمل قمت به هو إرجاع هذا الجواز واسترداد جوازي العادي. ومن بعدها رفضت أي جواز دبلوماسي أو خاص كما يعطى للنواب وأصررت على هذا الموقف طوال وجودي في المجلس، فأنا لم أعرف ولا أفهم لماذا يميز نائب في المعاملة عن الآخرين الذين أوصلوه إلى مجلس الأمة. مرة واحدة «حننت» إلى هذا الجواز وذلك قبل سنتين عند مغادرتي مطار بيروت راجعاً إلى الكويت، فقد أوقفني مع زوجتي موظف الجوازات قائلاً بأنني تأخرت في الإقامة في لبنان عن المدة المسموح بها فهذه مخالفة وعليّ أن أذهب غداً إلى دائرة إقامة الأجانب لأصحح وضعي أنا وزوجتي. فقلت له: أنا سائح وأنتم تقومون بحملة كبيرة لتشجيع السياحة في لبنان، فالمفروض أن تشكرني على تمديد إقامتي. فقال إنه موظف وعليه تنفيذ الأوامر.عندها اتصلت بالسفارة الكويتية في بيروت فقاموا مشكورين بحل المشكلة. وعندما تلقى موظف الجوازات اللبناني هذا مكالمة من رئيسه أوضح لهذا المسؤول: «إنه يحمل جواز سفر عادياً ولو كان غير ذلك لما منعته». على كل حال لا أريد أن أظلم بلدي الثاني لبنان فهم الآن يعاملون الكويتيين معاملة خاصة وممتازة يشكرون عليها. أما المسألة الثانية التي كرهتها في المجلس فهي «بدعة» الوفود البرلمانية التي تجول العالم، فإذا كان المقصود منها هو الدعاية للكويت فيجب أن تنتقى بعناية كي يكون أعضاء الوفد من مستوى معين من المعرفة والخلق وحسن التعامل مع الآخرين كي يعطوا انطباعاً حسناً عن بلدهم.الموقف الثالث هو موضوع الاستجواب. فمع أن حق الاستجواب منصوص عليه في الدستور كأداة مهمة في الرقابة التشريعية إلا أنني لم أمارس هذا الحق طوال وجودي في المجلس. لماذا؟ لأن طريقة الاستجواب تخرج عن مفهومي للمحاسبة، فأنا أنتقد المواقف الخطأ بشدة، ولكن كل كلامي وانتقادي يوجه إلى الأعمال والتصرفات وليس إلى الشخص نفسه. ففي الاستجواب يقف النائب المستجوب على منصة ويقف الوزير المسؤول على المنصة المقابلة فتتحول المشكلة وكأنها بين شخصين اثنين يتقاتلان وكأن بينهما ثارات، فتتحول المسألة من قضية عامة في رأيي إلى عراك شخصي، وأنا حريص جداً على الاحتفاظ بالعلاقة الطيبة مع كل الأشخاص، ولا أقبل بأن يتحول الخلاف السياسي مهما كان إلى الإضرار بالعلاقات الشخصية والصداقات التي أقدرها وأحترمها، وأحمد اللـه أنني حتى هذا اليوم أحتفظ بأطيب العلاقات مع خصومي السياسيين علـى المستوى الكويتـي والعربي. في الكويت مع الأسف الشديد سرعـان ما يتحـول الخلاف السياسـي إلى خلاف شخصي مثل «محارب» أبناء الفرجان أيام زمان!مكافأة الأعضاء
عندما اقترح حمود الزيد أن لا تخصص مكافأة للأعضاء كان يعبّر عن التقاليد السائدة في الكويت، فأعضاء المجالس في السابق لا يأخذون أية مكافأة، فهم من التجار ويعدّون الخدمة العامة واجبة عليهم دون مقابل، وكونهم تجاراً وعندهم دخل مريح فإنهم لا يريدون أن يكلفوا خزينة الدولة مصاريف لا ضرورة لها خصوصاً أنهم مصدر دخل الدولة. أما بقية أفراد الشعب فهم مشغولون بأعمالهم في البحر أو الحرف المتعددة حتى يوفروا لقمة العيش لعائلاتهم وليس عندهم الوقت للاهتمام بالأمور العامة التي ستعرقل عملهم في الحصول على لقمة العيش، لذلك نلاحظ أن عامة الشعب مغيبون عن هذه النشاطات فلم تبرز منهم عناصر في هذا المجال إلا ما ندر.لكن الحياة الديمقراطية وإعطاءهم الفرصة للانتخابات والترشيح التي كانوا محرومين منها في السابق بسبب التعيين أحياناً أو اختصار عدد الناخبين وبالاختيار من قبل السلطة أحياناً أخرى، جعل الفرصة متاحة لهم بالمساهمة في العملية الانتخابية إذا وفرت لهم الخدمة العامة دخلاً يغنيهم عن التفرغ لعملهم. وهكذا جاء اقتراح يعقوب يوسف الحميضي ليؤكد حقهم الدستوري بالمشاركة وتمكينهم من ذلك. فمن دون مكافأة للأعضاء لن يستطيع أحد من الطبقات الفقيرة أن يرشح نفسه لأنه سيفقد رزقه، مما دفع يعقوب الحميضي لمعارضة هذا الاقتراح - عدم تخصيص مكافأة للأعضاء - حتى تستطيع هذه الفئة من الناس ترشيح نفسها.ولا شك في أن الزخم في العمل السياسي والوطني أغنى تجربتنا الديمقراطية وجعلها تحقق إنجازات مهمة لمصلحة فئات الشعب كلها.عندما اتضح أن النية استقرت على وضع دستور البلاد وقرر المجلس المشترك الدعوة إلى انتخابات المجلس التأسيسي أصبح من الضروري أن تتخذ الحركة موقفاًًً من ذلك، هل نشترك أم نقاطع؟ البعض كان يقول إن وضع دستور هو خطوة أولى في طريق تحقيق هدفنا الذي يدعو إلى تحول النظام من نظام عشائري إلى نظام ديمقراطي يشارك فيه الشعب في اتخاذ القرارات، وهو في أسوأ الأحوال يتيح لنا منبراً مهماً لنشر آرائنا، وتوعية الناس بحقوقهم المشروعة في إدارة بلدهم، ويساعدنا على الانتشار الجماهيري الواسع، ويعطينا فرصة أكبر لتبنّي مطالب عامة الناس ومساعدتهم على تحسين أوضاعهم المعيشية. بينما يرى البعض أن العملية هذه كلها مؤامرة القصد منها إبعاد الكويت عن محيطها العربي وعزلها لإحكام السيطرة على خيراتها. وبعد مناقشات مطولة رأت الأكثرية بأخذ الموقف الأول - أي المشاركة في العملية الانتخابية - وقررنا خوض معركة انتخابات المجلس التأسيسي على أن يبقى كل من جاسم القطامي وعبدالله حسين الرومي في مواقعهم الوظيفية في مكتب عبدالله السالم لأهمية ذلك الموقع، وكذلك كي لا يفسر عبدالله السالم استقالتهما وكأنها رفض للتعاون معه. أما يعقوب الحميضي فقد كان قد تفهم عبدالله السالم وضعه كتاجر يريد أن يتفرغ لعمله التجاري فأعفاه من الوظيفة مما سمح له بترشيح نفسه للانتخابات.إن الجو العام داخل الحركة وإطار الأصدقاء المشكك في جدوى الانتخابات جعلنا نشارك بعدد محدود من الأعضاء والأصدقاء، وحتى نشاطنا الانتخابي لم يكن في المستوى المطلوب بل اقتصر على الاتصالات الفردية وزيارة بعض الدواوين، ولم نهتم بشكل صحيح بتحالفاتنا بل شابها شيء من ردود الفعل العاطفية نحو مرشحين وطنيين بسبب مشاركتهم في بعض المجالس المعينة. ومع ذلك فقد نجح منا ثلاثة: أنا ويعقوب الحميضي وسليمان الحداد. كما احتوى المجلس ثلاثة من الوزراء الكويتيين عبدالعزيز الصقر، حمود الزيد ومحمد النصف، وانتخب أيضاً عبداللطيف الثنيان الذي أصبح رئيساً للمجلس التأسيسي، وفوجئنا أيضاً بوجود عناصر منتخبة ممتازة لم نتحالف معها في الانتخابات مثل يوسف المخلد وخليفة الجري وأحمد الفوزان وغيرهم مما شكّل ثقلاً مهماً داخل المجلس التأسيسي.الحملة الانتخابية - مجلس 1963
المتفحص للصحف الكويتية أثناء الحملة الانتخابية لا يجد فيها أي تطور في نوعية الدعاية الانتخابية، فالنشاط الانتخابي اقتصر على زيارة الدواوين ولم تطرح فيها برامج عمل واضحة، ولكن هذه المرة كان عددنا أكثر ونشاطنا شمل مناطق عديدة وكانت كل مجموعة مـن المرشحين في دائرة انتخابية واحدة يقومون بالنشاط داخل دوائرهم الانتخابيـة، يزورون دواوين المنطقة والمتنفذين فيها، كما أن اللجان الانتخابية لكل دائـرة تقوم بالاتصالات الفردية الضروريـة. أما التدخل الحكومي الواسع فلم يكن موجوداً. ما عـدا مرة واحدة في دائـرة كيفان - خيطان حيث قام وكيل وزارة الداخلية عبداللطيـف التويني بزيـارة بعض الدواوين قائلاً إن الشيـوخ يحذرونكم من انتخـاب القائمة التي تمثلـنا وهم جاسـم القطامي وخالد المسعـود ويعقـوب الحميضي وراشد التوحـيد.وعندما تأكدنا من هذا التدخل توجه مرشحونا في هذه الدائرة إلى عبدالله السالم، ونقلوا له ما جرى قائلين بأنهم مستعدون للانسحاب إذا كانت هذه رغبته، فاستنكر ذلك وأكد لهم أنه لن يكون هناك أي تدخّل. ويروي فهد الدويري أنه بينما كان عند سعد العبدالله إذ بعبدالله السالم يطلب منه الحضور فوراً، فغادر المكان رأساً متوجهاً إلى الشعب وشدد عليّ بالذهاب معه. وقال له عبدالله السالم: هل أنت الذي أمرت الثويني بالتدخل أو أنه قام بذلك بنفسه؟ فرد عليه بأنه لم يعلم بذلك فقال له: إذاً أنت تشوفه. وكان ذلك إنذاراً للجميع بعدم التدخل في الانتخابات العامة.كانت المعارك الانتخابية رياضية وكانت المنافسة شريفة ولم نكن نعرف الأمراض الخبيثة التي نراها اليوم وهي تنخر في جسم الشعب الكويتي، كالرشوة والنعرات الطائفية والقبلية والمناطقية، هذه الأمراض التي سأناقشها بشكل مفصل في مكان آخر.نقلت ترشيح نفسي إلى منطقة حولي، لتجنب بعض الإحراج الذي نشأ لكون المرشحين اثنين فقط وهي منطقة للتجار، بينما كانت منطقة حولي خالية من هذه الإحراجات وهي دائرة شعبية تناسبني.وقد علق عبدالله السالم على نجاحي قائلاً: إن الكويتيين يحبون أحمد وينجح في أية منطقة يرشح نفسه فيها.حققنا نتائج ممتازة في هذه الانتخابات وحصل بعضنا على أرقام قياسية تجاوزت 80% من الأصوات.تعقيدات الانتقال من النظام العشائري إلى الديمقراطي
على الرغم من أن الحكم في الكويت كان يتمتع بقدر من المشاركة في اتخاذ القرار، فالصباح حكموا بقرار من أهل «الحل والعقد» من مجتمع الكويت، ومن بعض المحاولات المحدودة لانتخاب مجالس تشريعية في العشرينيات وأواخر الثلاثينيات، إلا أنها كانت تجارب قصيرة لم تتعد الأشهر القليلة، كذلك كانت نسبة المشاركة ضئيلة جداً والصلاحيات محدودة لكون الكويت تحت الحماية البريطانية. كذلك فإن المعاهدة هي بين البريطانيين وعائلة الصباح ممثلة بالحاكم، فكانت الكويت تحكم من قبل الحاكم وسكرتاريته التي لم يكن فيها أحد من عائلة الصباح. وتدار البلد بالتعاون مع مديري بعض الدوائر التي تحتاج إليها البلد في وضعها البدائي. ولم يتسلم أحد من أفراد عائلة الصباح أية دائرة حكومية قبل الأحداث التي أدّت إلى حلّ المجلس التشريعي عام 1939 اللهم إلا ما ندر، فبعد هذه الأحداث أصبحت الكويت تحكم حكماً مباشراً من قبل الأمير وبعض أفراد العائلة بشكل مطلق، وأخذوا يتصرفون بعقلية جديدة لا تختلف عن عقليات أمراء المنطقة الذين وصلوا إلى الحكم «بحد السيف»، كما يقولون، مما يجعل الأرض ومن عليها ملكاً خاصاً لهم حسب المفهوم العشائري التقليدي، وحسب مفهوم الغزو وأعرافه الشائعة في أنحاء الجزيرة، فالأرض ملكهم الخاص وخيرات البلد لهم وحدهم والشعب ضيوف ثقلاء عندهم.وهكذا استباحوا أراضي الكويت وأموالها وحملت سياراتهم لوحات تحمل علم الكويت لا أرقاماً من الشرطة، وتنقلوا بها والعصي في صناديقها والفداوية في المقاعد الخلفية لاستعمالها ضد من يأمر «المعزب» بجلده لأتفه الأسباب دون وازع أو رادع.ومع أن عبدالله السالم بعد أن استقر به الحكم اتخذ عدة إجراءات للحد من هذه التصرفات الشاذة، كما ذكرنا سابقاً، إلا أن إزالة بعض المظاهر شيء وإزالة العقلية شيء آخر سواء عند العائلة أو عند عامة الكويتيين.فثقافة التفرد بالسلطة شيء وثقافة الديمقراطية شيء آخر، ولا يمكن أن تلغى هذه الثقافة المتخلفة بقرار بل تخضع للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهذه عملية طويلة ومعقدة وتحتاج إلى جهد وصبر حتى يفهم المواطن أن الوطن من أرض وخيرات ملكه هو، وهو مشارك حقيقي في القرار الذي يؤثر في حاضره ومستقبله، وبأنه ليس ضيفاً ثقيلاً في بلده يقال له: «إن لم يعجبك الوضع فالمطار مفتوح للمغادرة». في هذا الوضع الصعب دعي الكويتيون إلى انتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور الدائم للكويت لتنتقل من الحكم الفردي إلى الحكم الشعبي. وكما ذكرنا فإن أعداداً كبيرة من النواب المنتخبين في المجلس التشريعي قاموا بتقبيل أنوف الأمراء الوزراء وأكتافهم وأياديهم في حفل افتتاح المجلس وهي صورة توضح طبيعة المهمة الصعبة التي كانت أمام القوى الوطنية في المجلس لوضع دستور ديمقراطي متطور.فالذين ينتقدون دستور 1962 ويعددون الثغرات التي تشوبه لم يعيشوا تلك الفترة ويفهموا صعوبة الوضع آنذاك. وقد انعكس ذلك في الصراع الذي دار في لجنة وضع الدستور وقاعة المجلس، وكذلك من وراء الكواليس وعلى الصعيد الشعبي، لتحقيق المكاسب الشعبية التي تحققت في دستور 1962، التي عدّها المجلس التأسيسي بداية المسيرة إلى تحقيق الديمقراطية الحقة، من خلال مواده التي حثت على تعديل الدستور نحو الأفضل ابتداء من الفصل التشريعي الثاني كما نصت المادة (157). وإليك مثلاً كيف أن بعض المسؤولين لا تهمهم سمعة الكويت، ففي النقاش الذي دار في لجنة الدستور، وعندما ذكر أن إحدى المواد المقترحة تضر بسمعة الكويت، قال سعد العبدالله: «معظم الدساتير في المنطقة فيها عيوب ونحن نستطيع أن نرد عليهم إذا واجهونا بانتقادات حول دستورنا».تعيين ولي للعهد
لم يعيِّن عبدالله السالم ولياً للعهد منذ توليه الحكم عام 1950، كان يُعيِّن عبدالله المبارك نائباً عنه عند سفره. وفي أواخر الخمسينيات أبدى بعض الشيوخ الطامحين إلى ولاية العهد عدم ارتياحهم لاستمرار تعيين عبدالله المبارك نائباً عنه كل مرة. ورغبة من عبدالله السالم في تبديد هذه المخاوف عيّن غيره نائباً له، وأعتقد أنه كان جابر الأحمد. وعندما استقلّت الكويت عام 1961 فكّر في تعيين ولي للعهد، وبيّنت المعلومات التي تسربت لنا بأن هذا الموضوع طرح في مجلس العائلة الأعلى إلا أنه لم يكن هناك اتفاق على ذلك. ويذكر أحد أبناء أحمد الجابر أنهم اجتمعوا فيما بينهم في منزل صباح الأحمد الصباح في قصر الرحاب بحولي لبحث هذا الموضوع، وأن محمد أحمد الجابر طرح نفسه ولياً للعهد لكونه أكبرهم سناً، ولما لم يجد تجاوباً من إخوانه قبل أن ينسحب شرط أن يكون جابر الأحمد مكانه.كانت هناك منافسة بين عبدالله المبارك وفهد السالم على هذا المنصب، ولكن بعد موت فهد السالم عام 1959 ومغادرة عبدالله المبارك الكويت في أبريل 1961، خرج الاثنان من المنافسة.أما صباح السالم فكان يعتقد منذ مدة أنه هو الأصلح، وأذكر مرة، أثناء المظاهرات التي حصلت في فترة العدوان على مصر عام 1956 وتوقيف كل من يعقوب الحميضي ويعقوب يوسف القطامي عندما حاولا منع رجال الشرطة من التعرض للفتيات الكويتيات المتظاهرات، أذكر أنني ذهبت أنا وعبدالعزيز حسين وخالد المسعود إلى صباح السالم في مكتبه بإدارة الشرطة العامة مطالبين بإطلاق سراحهم، وكان سعد العبدالله موجوداً لكونه نائباً لرئيس الشرطة، فاستجاب لطلبنا وطلب من سعد العبدالله الذهاب لإطلاق سراحهم. وعندما خرج سعد العبدالله قال لنا صباح: إن ما أريد بحثه معكم ليس إطلاق سراح إخوانكم فهذا أمر بسيط، وإنما أريد أن أبحث معكم في ولاية العهد وأنا مؤهل لذلك لاهتمامي الشديد بمصلحة الكويت. واستطرد قائلاً: «ويشهد هذا التلفون - الذي أمامي - بأنني يومياً أتصل بالقنصل البريطاني في القضايا التي تهم الكويت». فقلنا: «إن شاء الله يصير خير». وكم كانت دهشتنا عظيمة لكلامه في وقت كان كل من عبدالله المبارك وفهد السالم وعبدالله الأحمد وجابر الأحمد موجودين. صباح السالم كانت له علاقة مميزة مع جاسم القطامي، كما أنه معروف عنه طيبته وعدم تعدّيه على أملاك الغير، وكان هو وعبدالله الأحمد الجابر الصباح ممن يصرون على دفع ما عليهم من أموال للتجّار أولاً بأول، بخلاف معظم أفراد الأسرة الآخرين، لذلك في أواسط الخمسينيات قام عبدالله السالم بتسديد ديون أبناء الأسرة المطلوبة للتجار بعد أن عمّ تذمر الناس ممن يرفضون دفع ما عليهم ولم يكن هذان الاثنان منهم.أمام هذا التجاذب بين أفراد الأسرة طلب عبدالله السالم من رئيس المجلس التأسيسي سؤال الأعضاء عمن يرشحون ولياً للعهد، وقال: إنني سأذهب إلى الهند وعند رجوعي تأتيني بالجواب.قام رئيس المجلس عبداللطيف ثنيان بدعوة الوزراء الكويتيين، وهم عبدالعزيز الصقر وحمود الزيد ومحمد النصف والأعضاء الثلاثة في المجلس التأسيسي أنا ويعقوب يوسف الحميضي وسليمان الحداد للاجتماع في بيت محمد النصف في الشامية، وهو المكان الذي نلتقي فيه عادة للتنسيق فيما بيننا، ونقل إلينا عبداللطيف ثنيان الغانم رسالة عبدالله السالم، وهو بذلك ينقل رغبة عبدالله السالم في ترشيح ولي للعهد، وأيضاً حصره في هذه الأسماء من المجلس التأسيسي فقط، وإلا لكان عليه أن يدعو إلى اجتماع للمجلس التأسيسي لبحث الموضوع.ولا بد من الإشارة إلى أن عبدالله السالم لم يكن ملزماً بمشاركة أحد في اتخاذ القرار لأن الدستور لم يوضع بعد وكذلك قانون توارث الإمارة، فهو اتخذ هذا الإجراء لتطبيق العرف الكويتي السائد منذ البداية بمشاركة الكويتيين في اختيار الحاكم. كذلك فعبدالله السالم لم يحدد لنا الأسماء التي نختار منها، بل ترك ذلك لنا. هل كان يريد تجنب الإحراج العائلي؟ ربما!في تلك الفترة كان حديث الناس يدور حول ثلاثة من الأسرة هم صباح السالم وجابر الأحمد وسعد العبدالله واستثناء الآخرين. كان أكثرهم حظاً هو الشيخ جابر الأحمد، إلا أنه في تلك الفترة لم تكن علاقته بالتجار سليمة بسبب بعض تصرفاته كرئيس للمالية. أما بالنسبة إلينا فكان جابر الأحمد مرشحنا المفضل لعلاقتنا واتفاقنا معه على أهمية تطوير الوضع السياسي في الكويت منذ أواسط الخمسينيات، إلا أننا أخذنا عليه موقفه من الإجراءات التي اتخذت ضدنا في أحداث مهرجان الشويخ فبراير 1959 لمناسبة أعياد الوحدة بين سورية ومصر. كنا نتوقع منه أن يدافع عنا ولكنه لم يفعل لأسباب اتضح لنا فيما بعد أنها ربما تكون وجيهة. وكذلك علمنا أن الشيخ عبدالله السالم مع حبه لجابر ابن شقيقته الخليصة التي تربطه بها علاقة حميمة جداً كان يعتقد أن جابر الأحمد في ذلك الوقت غير مهيأ بعد لتحمل مسؤولية الحكم لصغر سنه.كل هذه الأمور جعلتنا نختار الشيخ صباح السالم ولياً للعهد مع معرفتنا بإمكاناته المحدودة، ويشفع له أنه لم يُعرف عنه أنه آذى أي شخص، والحكم قوة جبارة وسقوط الحكم في قبضة شخص مؤذ يكون أكبر خطر يهدد الدولة.لاحظنا ارتياحاً من رئيس المجلس عبداللطيف ثنيان الغانم لاختيارنا، ولعله كان بدهائه السياسي قد قرأ أفكار الشيخ عبدالله السالم الذي لم يتردد في تعيين صباح السالم ولياً للعهد عند رجوعه من الهند.عبدالله السالم وعائلة الصباح
يعيب بعض الشيوخ على عبدالله السالم أنه تنازل كثيراً عن صلاحياته وهمّش أو ألغى صلاحيات العائلة الحاكمة مما جعله محل انتقاد وعدم رضا من العائلة، وهو ما سأفصله لاحقاً.إلا أن المتمعن في تصرفات عبدالله السالم يجدها على عكس ما يقول هؤلاء، فقد كان محباً للعائلة وحريصاً على حمايتها وتحصينها من أي شطط يهدد وجودها في الحاضر أو المستقبل، وكان يعطي الفرصة الكاملة لأفراد العائلة لممارسة دورهم السياسي، ولا يتدخل إلا نادراً عندما تعجز العائلة عن التصرف بحكمة. فهو مثلاً لم يقم بعزل فهد السالم عندما استقالت المجالس المنتخبة عام 1954 بسبب اصطدامها بفهد السالم واستبدال آخر به، بل قبل استقالة المجالس وعيّن لجنة من الشيوخ «اللجنة التنفيذية العليا» لمساعدته في الحكم. وحتى عندما أخفقت هذه اللجنة بسبب اصطدامها بالشيوخ الكبار كعبدالله المبارك وفهد السالم، أضاف هؤلاء الكبار إلى اللجنة وسماها بالمجلس الأعلى، وأوكل إليها المهمة نفسها، وعندما ضاق ذرعاً من تصرفات فهد السالم وعبدالله المبارك أبعدهما عن الحكم، وأبقى على المجلس الأعلى.كذلك فإن عبدالله السالم لم يتدخل عندما اشترط المجلس الأعلى على المجلس الموحد المنتخب عام 1958 إسقاط عضويتي وعضوية جاسم القطامي وعبدالرزاق الخالد، مما أدى إلى استقالة جميع أعضاء المجلس المنتخبين إرضاء لهم، وهكذا ضحى عبدالله السالم بالمجلس المنتخب من الشعب لمصلحة أفراد الأسرة.كذلك فإنه سمح لأبناء الأسرة بأن يستولوا على أراضي الدولة دون وجه حق كما لم يحدث قط في تاريخ الكويت، إذ كان الأمير وحده هو المسؤول عن أراضي الدولة وحمايتها، ولم يتدخل عبدالله السالم في هذا الموضوع وتحديد الأراضي الأميرية إلا بعد أن تمادى أفراد العائلة بالاستحواذ على أراضي الدولة كلها - من حدودها مع العراق شمالاً حتى حدودها مع السعودية شرقاً وجنوباً - وهذا ما اتضح لنا عندما شكل مجلس الأمة عام 1971 لجنة السندات برئاسة العضو أحمد النفيسي الذي كشف أموراً هي في غاية الخطورة والاستهتار بأراضي الدولة كلها.ولكن لمّا تطورت الأحداث في الكويت والمنطقة العربية بشكل عام وجد أن مصلحة العائلة وحماية بقائها هو في التجاوب المحدود مع المطالبات الشعبية، فدوره في وضع الدستور لم يكن انتقاماً من العائلة بل خشية عليها وحماية لمستقبلها، وهذا ما لم تفهمه العائلة مع الأسف الشديد مما جعلها تسارع في تحطيم كل ما حققه عبدالله السالم من رصيد للعائلة بعد وفاته مباشرة.كذلك فإنه لم يطلب من المجلس التأسيسي اختيار ولي للعهد كما أسلفت إلا بعد أن أخفقت العائلة في الاتفاق على مرشح واحد، فأراد أن ينأى بنفسه عن الانفراد باتخاذ هذا القرار حتى لا يلام من العائلة ويُتّهم بالتحيز.مجلس الأمة الأول وتشكيل حكومة بعد صدور الدستور
افتتح مجلس الأمة بتاريخ يوم الثلاثاء 29 يناير 1963 وهو أول مجلس منتخب بموجب دستور 1962، وألقى عبدالله السالم الصباح كلمة الافتتاح ضمّنها أداءه القسم الدستوري وهذا نصها:كلمة عبدالله السالم في افتتاح مجلس الأمة
حضرات الأعضاء المحترمين ،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،بسم الله العلي القدير، نفتتح الدورة الأولى لمجلس الأمة الذي تبدأ بانعقاده مرحلة العهد الدستوري في دولة الكويت المستقلة.في هذه المرحلة التي تعتبر حلقة من حلقات سير دولتنا الصاعدة نحو هدفها الأعلى، يسعدني أن أهنئكم بثقة الشعب بكم حين اختاركم لتحملوا أمانة تمثيله وأن أكرر وصيتي لكم «كوالد لأبنائه» أن تحرصوا على وحدة الصف في هذه الدولة العربية المتمسكة بدينها وتقاليدها.وإنه ليسعدني في هذا اليوم الأغر من تاريخ بلادنا أن «أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور وقوانين الدولة، وأذود عن حريات الشعب ومصالحه وأمواله، وأصون استقلال الوطن وسلامة أراضيه».والله ولي التوفيق ،
وهكذا فإنه أدى اليمين الدستورية مع أنه لم يكن ملزماً بذلك كونه أميراً منذ عام 1950.وفي 27/1/1963 صدر مرسوم أميري بتكليف صباح السالم الصباح بتشكيل أول وزارة كويتية حسب نص دستور 1962.عندما كُلِّف صباح السالم بتشكيل الوزارة استدعاني أنا وجاسم القطامي وسليمان خالد المطوع لمقابلته في بيته بالسالمية، ونقل إلينا رغبة عبدالله السالم في دخولنا إلى الوزارة. كان ذلك مفاجأة لنا، فقلنا إننا نمثل قطاعاً واسعاً من الشعب المهمل، الذي له مشكلات عديدة يطالبنا بالعمل على تحقيقها، ولا يمكننا أن نقوم بذلك ما لم نقوِّ علاقاتنا بهؤلاء، وهم طوال هذه الفترة لم يكن لهم أي اتصال مع المسؤولين، ونخشى إن قبلنا الوزارة وأصبحنا وزراء أن يحجموا عن الاتصال بنا تهيّباً، ونحن نريد أن نكون معهم لننقل قضاياهم إلى الحكومة. فكان رده علينا أنه قابلنا لينقل لنا رغبة الأمير وليس للتفاوض، فإذا كان هذا رأيكم فاكتبوه برسالة آخذها للأمير. وأعطاني ورقة وقلماً وقال لي: اكتب وجهة نظركم لأنقلها إلى الأمير. فكتبت الرسالة قائلاً: إن كان هذا أمراً منك يا صاحب السمو، فنحن سنمتثل له احتراماً وتقديراً لكم، أما إذا كنت تريد رأينا فهذا رأينا في موضوع الاشتراك في الوزارة. فأخذ الرسالة وسلمها لعبدالله السالم الذي قال: إذا كان هذا رأيكم فإنني لا أعترض على ذلك. ودعا لنا بالتوفيق. هل كان رأينا متسرعاً؟ وهل فوّتنا على أنفسنا فرصة التأثير في اتخاذ القرار وربما ساهمنا في احتواء الأزمة التي واجهها المجلس في بدء الحياة البرلمانية؟ هل كان ذلك الموقف دهاء سياسياً أم قصر نظر؟ وهل كان وجودنا في الوزارة ربما سيخلق مشكلات أخرى؟ فنحن مثلاً لا نقبل بأن نكون مهمَّشين، وإذا اتخذ قرار لا نؤمن به فعلينا أن نقدم استقالتنا ولا يمكن أن نتضامن وندافع عن قرار لا نؤمن به مما سيشكل أزمات سياسية نحن في غنى عنها في بداية العهد الدستوري، والمفروض أن توفر فرصة للاستقرار والابتعاد عن التأزيم.كل هذا أصبح في ذمة التاريخ، وأعتقد أن الجواب عن ذلك أمر صعب، وهو متروك للمؤرخين لتقييمه. السفير البريطاني كتب في تقرير لوزارة الخارجية البريطانية يقول بأننا في رفضنا الاشتراك ضيّعنا فرصة ثمينة كان يمكن لنا من خلالها التأثير في الأحداث في الكويت.ولكن هذه الوزارة التي شكلت لم تعمّر طويلاً، فبعد أن تم قبول الكويت في جامعة الدول العربية وهيئة الأمم طلب بعض شباب الأسرة من عبدالله الجابر أن يرتب لهم موعداً لمقابلة عبدالله السالم، ولما قابلوه أثاروا تذمرهم من الحياة النيابية وكيف أن أناساً كانوا خداماً عندهم أخذوا يتطاولون عليهم في المجلس مما لا يحتمل، فإذا كان القبول في هيئة الأمم مشروطاً بقيام الحياة النيابية فقد تحقق هذا الاعتراف، فلماذا نبقي على هذا الوضع غير المقبول؟ وهذه المملكة السعودية عضو في هيئة الأمم وليس فيها مجلس أمة.وكان رد عبدالله السالم عليهم حازماً إذ قال لهم: أليست عندكم ألسنة لتردوا عليهم؟ ومن لا يعجبه ذلك فلينسحب من الوزارة. ونتيجة لذلك استقال اثنان وأُبعد ثالث لاستعماله ألفاظاً بذيئة داخل المجلس بعد أن قبض الثمن، وهو خمسة ملايين دينار حسبما وصل إلينا كي لا يزعل كثيراً.وأعيد تشكيل الحكومة برئاسة صباح السالم ولي العهد، ولكن هذه الوزارة لم تعجب جابر العلي، إذ عدّها مؤلفة من مجموعة من التجار متعاطفة مع جابر الأحمد المنافس الرئيسي له على منصب الإمارة، واستطاع أن يشكل مجموعة من النواب الأصدقاء له، ومن بعض التجار الذين لا تربطهم علاقة طيبة مع مجموعة التجار الذين مُثِّلوا في الوزارة، لأسباب لا علاقة لها بمواد الدستور أو بخطة عمل مختلفة .وهنا نشأت أول أزمة وزارية حقيقية في الكويت، فهذه المجموعة التي ضمت 31 عضواً في المجلس، كانت تنسحب من الجلسة وتفقد النصاب كلما حاول الوزراء تأدية القسم الدستوري، مما يضطر الرئيس إلى رفع الجلسة. ولما تكرر ذلك قدم الوزراء استقالتهم، وهنا حاول عبدالله السالم تلافي الأزمة، وأخبرني أحد الوزراء المستقيلين بأنه قابلهم فرداً فرداً، فاشترطوا للعدول عن الاستقالة استبعاد كل من جابر العلي الصباح وخالد المسعود. وحسب هذا المصدر، كان من الخطأ الطلب من عبدالله السالم إبعاد جابر العلي عن الوزارة، فليس مقبولاً عند الصباح أن يتدخل أحد في شؤون العائلة لأن ذلك يعدّ تطاولاً عليهم. وهذا ما جعل عبدالله السالم يرفض طلبهم ويقبل الاستقالة ويكلف صباح السالم بتشكيل وزارة جديدة، وقد أوكل المهمة إلى جابر العلي متعاوناً مع خالد المسعود وبمباركة من سعد العبدالله.كان السبب الذي استُخدم لإطاحة الوزارة هو أن الوزراء كانوا تجاراً مما يتعارض مع المادة 131 التي تنص على أن الوزير يجب أن يتخلى عن العمل التجاري أثناء توليه المنصب. هذا هو التبرير الذي قدمته هذه الكتلة المعارضة، وهذه حجة واهية فمعظم الوزراء الجدد تجار أيضاً لذلك لم نؤيد هذه الكتلة. لكن السبب الحقيقي هو الصراع الدائر بين جناحي العائلة وبالذات بين جابر العلي وجابر الأحمد، فجابر العلي يعتقد أن جابر الأحمد هو المنافس الحقيقي له لولاية العهد إذا تولى صباح السالم الحكم فلا بد أن يقلص نفوذه من الآن احتياطاً. لم نر من الحكمة الدخول في هذا الصراع غير القول بأن حجة المعارضين هي واهية وغير دستورية، إذ إن العادة إما أن يوقف التاجر نشاطه مؤقتاً أو يكلّف أحد أقاربه بذلك.هذا الموقف سبب لنا مشكلة مع الطرفين المتصارعين لأننا لم ندخل حلبة المصارعة.بالطبع لو كان المجلس واعياً لحقوقه الدستورية ولائحته الداخلية لأخذ الصراع شكلاً آخر.فالجلسة لا تعدّ رسمية ولا يتم افتتاحها إلا إذا كانت الأغلبية متوفرة. وعندما تفتتح الجلسة بتوفر النصاب تعدّ الجلسة رسمية حتى لو فقد النصاب أثناء انعقادها. ويكون النصاب مطلوباً للتصويت على القرارات فقط، فلذلك فقدان النصاب بعد افتتاح الجلسة وعندما يقوم الوزراء بأداء القسم الدستوري لا يمنع من استمرار الجلسة، وعندما ينتهي الوزراء من أداء القسم تستكمل الوزارة شروطها الدستورية. وإذا أرادت المعارضة إسقاط الحكومة عليها أن تلجأ إلى المادة 102 من الدستور وهي تقول بأن المجلس يقر عدم التعاون مع رئيس الوزراء وعندها للأمير الحق إما في إقالة رئيس الوزراء أو حل المجلس، فهنا يصبح الصراع مع رئيس الحكومة بدلاً من الوزراء ويصبح المجلس مهدداً بالحل مما يجعل تماسك المعارضة أمراً مشكوكاً فيه.والمفارقة العجيبة أن هذه الحكومة الجديدة التي عدّت نفسها شعبية أقدمت على تعديل القوانين لتضيق الحريات العامة على كل الشعب.كذلك فإن هذه الحكومة الشعبية هي التي وافقت على تزوير الانتخابات عام 1967 وعندما طلب خالد المسعود وجابر العلي من الوزراء الاستقالة احتجاجاً على التزوير رفضوا ذلك، مع أنه وجابر العلي هما اللذان أدخلاهم في الوزارة. فاستقال خالد المسعود وحده احتجاجاً على التزوير، ورفض الآخرون مغادرة مقاعدهم الوزارية التي لم يحلموا بالجلوس عليها!لم يستهدف التزوير العناصر الوطنية وحدها بل شمل أيضاً العناصر التابعة لجابر العلي أيضاً، مما أنهى طموحه السياسي لأنه أصبح يشكل خطراً على كل الطامحين لولاية العهد من فرعي العائلة بمن فيهم سعد العبدالله نفسه!أما مواقف بقية الوزراء من الأسرة فهي لا تطفو فوق السطح، ولا يعرف اصطفافهم مع مَنْ هم خارج الأسرة، إلا أنه في فترات لاحقة، كان يلاحظ أن هناك محاصصة بين الأقطاب، سواء بالنسبة إلى من يدخل الوزارة من العائلة أو من الوزراء العاديين، فكل قطب يرشح مجموعة من جماعته للوزارة. وعلى أية حال فإن هذا الموضوع سوف أتطرق له لاحقاً ليس من الجانب الشخصي بل من جانب مدى تأثيره في مسيرة الأحداث اللاحقة في تاريخ الكويت السياسي.فسر البعض هذا التطور بأنه انحياز من عبدالله السالم إلى موقف المعارضة التي تزعّمها جابر العلي ضد التجار وجابر الأحمد، إذ كان بوسعه كما يقول هؤلاء أن يبطل هذا التحرك أو يحلّ المجلس.والبعض الآخر يقول إن موقفه هذا كان لدعم العملية الديمقراطية واحترام قرار المجلس حتى لو خالف رأي الحاكم، ولم يكن من المناسب أن تبدأ الحياة الديمقراطية باستعمال حقه في حل المجلس، مما يعطي الانطباع بهشاشة الديمقراطية وفشلها مما لا يقبله عبدالله السالم على نفسه. وكذلك لا بد من الأخذ بالحسبان ما قيل عن إصرار بعض الوزراء من التجار على استبعاد جابر العلي من الوزارة، مما عدّه تطاولاً على الأسرة.وقد رأى الوزراء المستقيلون ذلك انحيازاً من عبدالله السالم إلى المعارضة التي أسقطت الحكومة، وهذا ما دفع عبدالعزيز الصقر إلى الاستقالة من رئاسة المجلس. ومما يلفت النظر أنه وخلال مناقشة استقالة الرئيس، وعندما كرر بعض الأعضاء قولهم بأن الرئيس سيقابل الأمير، أكد عبدالعزيز الصقر احترامه وتقديره لوالد الجميع، إلا أنه قال إن الأمير لم يطلبه لمناقشة الاستقالة مما أوحى للجميع أن عبدالله السالم كان موافقاً أيضاً على استقالة عبدالعزيز الصقر.أنا لا أعرف الأسباب الحقيقية لهذا الموقف غير المتوقع من عبدالله السالم كما أن عبدالعزيز الصقر رَفَضَ التطرق لهذا الموضوع. ربما يكون غيري عنده الجواب ولا أريد أن أتكهن بالأسباب كي لا أقع في خطأ.هنا وافق المجلس في الجلسة الثانية على استقالة عبدالعزيز الصقر بعد أن أصرّ عليها، وانتخب نائب الرئيس سعود العبدالرزاق رئيساً وهو من أقطاب تكتل المعارضة ومعروف عنه علاقته الحميمة بسعد العبدالله السالم.إن الانقلاب الذي حصل في المجلس دشّن مرحلة جديدة في العمل السياسي في الكويت وكان عنوانها هدم كل إنجاز حققته الحركة الوطنية للكويتيين منذ تأسيسها، ومهدت لمرحلة الردة التي نعيش آلامها إلى يومنا هذا.