الحياة صممت ليكون البشر فيها درجات، فهم ليسوا كأسنان المشط كما علمتني هي وبعض المربيات اللاتي انقرضن أيضاً، كما كل الأشياء الحقيقية والجميلة، فهناك بشر درجة أولى، ويمكن حتى درجة أولى ممتازة أو "سنييه" للمتفرنجين، وآخرون درجة ثانية أو ما دونها حتى ما تحت الصفر، وكذلك اللاجئون كما كتب ذاك الصحافي في نيويورك تايمز قبل يومين تحت عنوان "لاجئون واستقبال واحد"، فقارن بين لاجئ سوداني وآخر أوكراني في بلاد الكون "المتحضرة" و"الديموقراطية" التي تنادي دوما بحقوق الإنسان، حتى أولئك الهاربون من القذائف في أوكرانيا وهم بألوان وجنسيات مختلفة وكلّ حسب لونه وعرقه، كما يثبت الصحافي عبر لقاءات على الحدود مع بولندا، حيث قالت له إحدى المعنيات بشؤون اللاجئين في بروكسل مقر الاتحاد الأوروبي "إنها المرة الأولى التي نرى فيها المعاملة مختلفة بين مجموعتين من اللاجئين"، وتضيف بأن الأوروبيين يرون الأوكرانيين "مثلنا" أو يشبهوننا.

في هذا المقال يصف معاملة اللاجئين السودانيبن معاملة مخالفة تماما لمراسل نيويورك تايمز، وكيف أن الشرطة البولندية جردتهم من هواتفهم النقالة وكل وسائل الاتصال وأعادتهم إلى المكان الذي يخشونه وهو "الغابة" الفاصلة بين الحدود، في حين يبكي الأوكرانيون من شدة فرحهم بحفاوة الاستقبال من الشرطة نفسها والبلد نفسه!

Ad

لماذا نستغرب التمييز في المعاملة، وهي النمط "الماشي" في هذا العالم على كل المستويات، فتبدأ من التمييز بين مواطني البلد الواحد في أميركا وأوروبا حسب العرق أو اللون أو الدين، حتى عندما تغيرت القوانين ونصت على أن المواطنين متساوون أمام القانون، وهي نصوص أصبحت أكثر جموداً من فكر الكثيرين، لقد فتح ملف التمييز في المعاملة ونص الخبر الخاص بأوكرانيا، صندوقا أسود مليئاً بالنماذج والأمثلة، من التمييز في المكاتب بين النساء والرجال، وبين البيض والسود، وبين المسلمين وغيرهم، بعد أن تمكن الإعلام نفسه من نشر "الإسلامافوبيا" التي لم تكن سوى تركيبة رسمها أحد أجهزتهم بإحكام ووزعها على أجهزتها المختلفة.

فمثلا، وبعد العودة التدريجية إلى المكاتب مع انحسار فيروس كورونا، هناك من بدأ يتخوف بعد سنتين من العمل من المنزل، حيث اكتشف الكثيرون أن المكاتب بقيت على تصميماتها القديمة منذ أن خلق العمل فيها، وأنها مصممة للرجال البيض، فلا هي تراعي الخصوصيات الأخرى مثل الأميركيين من أصول إفريقية أو النساء أو حتى ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تذكر بعض الدراسات أن تفاصيل المكاتب حتى التحكم في الحرارة فيها هي على مقياس رجال بيض بأحكام معينة، ويقول باحثون آخرون إن النساء بشكل عام وجدن أن العمل من المنزل خفف حدة التوتر لديهن وأن النساء من غير البيض يشعرن بضغوط أكثر من مثيلاتهن من البيض... إلخ.

واكتشف بعض الباحثين أن كثيراً مما كان يقال عنهم إنهم عاملون غير منتجين أو أقل إنتاجية أثبتوا العكس خلال فترة كورونا وعملهم من المنزل، ففي دراسة على عينة من 10 آلاف عامل وعاملة من "فيوتر فوروم" جاءت النتيجة لتثبت أن النساء والأشخاص الملونين عبروا عن أن العمل عن بعد أفضل من العمل في المكاتب مقارنة بزملائهم البيض! رغم أن آخرين عبروا عن افتقادهم للعلاقات التي تتعمق بين العاملين عبر الوجود في مكان العمل، وقالوا أنهم يصابون بشيء من الاكتئاب كلما تصوروا أنهم في كل صباح ينتقلون إلى مكتبهم في المنزل وهو لدى الكثيرين ليس إلا طاولة الطعام!

بعض ما نشر من دراسات لا يبدو غريبا على كثير منا نحن النساء العاملات، فكثير من المكاتب لم يكن فيها حمامات خاصة بالنساء لأنهم في بلداننا لم يتصوروا أن النساء سيخرجن من "عباءة" ما رسم لهن من عمل في مجال التمريض أو التدريس في مدارس خاصة بالفتيات فقط، فكثيرات من جيلنا يتذكرن أن عليهن الذهاب إلى أقرب فندق أو العودة إلى المنزل أو الامتناع عن شرب الماء وأي سوائل أخرى! يبدو بعض هذا كأنه سرد لحالات في العصور الوسطى إلا أنها قريبة جداً منا جميعاً.

ربما تأتي مثل هذه الأفكار والنقاش يحتدم في جنيف بين جدران قصر الأمم، حيث يعقد مجلس حقوق الإنسان جلساته الساخنة جداً، والتي لا يسمع فيها سوى كثير من العبارات المتكررة منذ سنين عدة، فما زال الشاكون هم هم، وما زال الواقفون عثرة في طريق التساوي في احترام الحقوق الأساسية للبشر، كل البشر هم نفسهم أيضا رغم أن الجميع يتقن فن إطلاق الشعارات الرنانة.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية

● د. خولة مطر