بوتين ليس المشكلة الحقيقية
فلاديمير بوتين هو مجرّد رجل عادي، لكن كيف يُعقَل أن ينجح رجل واحد، وهو الحاكم الفاسد والممل لبلد رجعي ومتدهور، في زعزعة العالم أجمع؟تتعدد الحالات المشابهة في الحياة الخاصة، قد يكون الطفل الباكي أضعف شخص في الغرفة، لكنه يستطيع أن يسيطر على الأجواء بصراخه، وقد يقاطع أي شخص غير متّزن عرضاً مسرحياً ويلفت أنظار ألف شخص في المسرح، وغالباً ما يكون المجرم رجلاً ضعيفاً، لكنه يفرض إرادته على الآخرين لأنه مستعد بكل بساطة لانتهاك القوانين والقواعد الاجتماعية.خصّص المفكر النمساوي فريدريش فون هايك فصلاً كاملاً من كتابه The Road to Serfdom (الطريق إلى العبودية) لمناقشة السبب الذي يجعل العالم مليئاً بشخصيات مثل بوتين، وحمل هذا الفصل عنوان "ما سبب وصول أسوأ الناس إلى أعلى المراتب؟"، فوضع هايك هذا السؤال في سياق التوتاليتارية عموماً، وحدّد ثلاثة عوامل لتفسير ظهور هذا النوع من الوحوش في تلك الأنظمة:
أولاً، لا حاجة إلى وجود أغلبية لحُكم المجتمع، بل يكفي أن يحظى الحاكم بدعم أكبر فئة مفيدة سياسياً، فكلما ارتفع مستوى ذكاء وتعليم الأفراد، كان لا مفر من أن تصبح أذواقهم وآراؤهم متباينة، حتى أنهم يصبحون أقل ميلاً إلى الاتفاق حول أهمية القيم، وإذا كنا نبحث إذاً عن أعلى درجات التوافق والآراء المتشابهة، فيجب أن نلجأ إلى المناطق التي تتراجع فيها المعايير الأخلاقية والفكرية، حيث تطغى الغرائز والأذواق البدائية والمبتذلة، ولا يعني ذلك أن معظم الناس يفتقرون إلى المعايير الأخلاقية العليا، بل إن أكبر جماعة من أصحاب القيم المتشابهة هي التي تحمل معايير متدنية بشكل عام.ثانياً، تكون الطاقة والثقة التي يتمتع بها الأغبياء كافية للتفوق على الراضخين والسذج الذين لا يحملون أي قناعات قوية خاصة بهم، وهذا ما يسمح لهم بالسيطرة على الأحزاب التوتاليتارية.ثالثاً، من الأسهل إقناع الناس بالموافقة على برنامج سلبي، ويبقى الكره (ضد عدو حقيقي أو خيالي) من أسهل أنواع البرامج السلبية التي يمكن تسويقها، يظن هايك أن هذا العامل يفسّر السبب الذي جعل الاشتراكيين في عصره يتحولون إلى قوميين عنيفين عند وصولهم إلى السلطة.من المعروف أن البيئة التوتاليتارية تبعد أصحاب الأخلاق العالية، لكن يظن هايك أنها تنتج أيضاً فرصاً مميزة لأكثر الأشخاص وحشية وعديمي الضمير، فهذا ما يوصلنا إلى بوتين وأمثاله. لا يكمن الخطر الحقيقي في وجود رجال مثل فلاديمير بوتين، بل يتعلق مصدر التهديد الفعلي بالدول التوتاليتارية بحد ذاتها، ويشمل كل مجتمع رجالاً مثل بوتين، وغالباً ما تُكلّفهم المجتمعات الليبرالية السليمة بمهام خاصة بهم، لكن في المجتمعات التوتاليتارية، قد يتولى هذا النوع من الرجال قيادة الجيوش، حتى أنهم قد يسيطرون على ترسانة نووية واسعة كما هي الحال مع بوتين.هذه النزعة موجودة في المجتمعات الليبرالية أيضاً، فغالباً ما تجذب السياسة الأميركية أسوأ نوع ممكن من الرجال والنساء في البلد، وهم يتسلمون السلطة عبر الدينامية التي وصفها هايك في الدول التوتاليتارية، فيجمعون من حولهم فئات بارعة من الأشخاص الرجعيين لكنهم يحملون جميعاً العقلية نفسها.يكفي أن نراجع تجربة التوتاليتاري أدولف هتلر كي نستنتج أن أكبر نقطة قوة للدول التوتاليتارية تتعلق بإجبار الخائفين من السلطات على تقليد قادتهم. يمكن رصد هذا المبدأ في تصرفات إدارة فرانكلين روزفلت الاستبدادية والمركزية أو رغبة إدارة ترامب في التحول إلى نسخة مطابقة لبكين.لا تشمل المجتمعات الليبرالية نوعية أفضل من الرجال إذاً، بل تتّسم بمحاكم مستقلة، وصحافة حرة، وحُكم القانون، ونظام الضوابط والتوازنات، والمحاسبة الديموقراطية، والانتخابات التنافسية، والمؤسسات القوية في القطاع الخاص، وحياة مدنية حيوية، وقد سبق أن وصل رجال بشخصيات سيئة إلى سدة الرئاسة الأميركية، لكن كان النظام الأميركي بحد ذاته كفيلاً بالحد من الأضرار التي يحدثونها.