لقد وجد التقليد الأميركي العريق في تقييم أول 100 يوم للحكومة طريقه إلى ألمانيا حيث يقوم النقاد بتقييم أداء ائتلاف أمبيلكواليتيون (تحالف إشارات المرور) للمستشار أولاف شولز والذي يضم الديموقراطيين الاجتماعيين والديموقراطيين الأحرار والخضر.إن ائتلاف أمبيلكواليتيون هو أول حكومة تضم ثلاثة أحزاب في ألمانيا منذ خمسينيات القرن الماضي، ومن أجل نجاح ذلك الائتلاف كان من الواجب على كل حزب أن يقوم بتعديل مبادئه المقدسة وتبني مواقف سياسية كان لا يمكن تصورها بالسابق، وفي حين يشكّل ذلك إنجازا كبيرا في أفضل الأحوال، فإن أي حكومة جديدة لم تواجه منذ تأسيس الجمهورية الاتحادية سنة 1949 بداية أكثر صعوبة، وذلك بسبب جائحة كوفيد19 والغزو الروسي لأوكرانيا.
لقد تغيرت السياسة الألمانية بشكل دراماتيكي بين ليلة وضحاها تقريبيا، ففيما يتعلق ببلد يفضّل اتخاذ القرارات بطريقة توافقية وبعد مناقشات مستفيضة وبدون مفاجآت، فإن العديد من التغييرات الأخيرة المفاجئة في السياسات كانت عبارة عن تحولات عميقة بحيث ستؤدي الى تغيير مسار السياسة الداخلية والخارجية الألمانية لعقود قادمة، ولكن لو فشل شولز في إدارة النتائج المعاكسة قصيرة المدى لتلك التغييرات والتوترات الحتمية التي ستخلقها ضمن الائتلاف فإن وظيفته كمستشار يمكن أن تكون الأقصر منذ جمهورية فايمر. طبقا لمسح أجرته الينزباخ للمركز التقدمي الليبرالي اليساري فإن 60% من الألمان يعتقدون أن ائتلاف أمبيلكواليتيون لديه رغبة حقيقية في عمل إصلاحات و51% يدعمون رؤيته الاستراتيجية طويلة المدى وفقط أقلية (20%) ينظرون الى الحكومة الجديدة على أنها استمرار لائتلافات الدولة المستقرة للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ولكن يتوقع 51% كذلك زيادة في عدم المساواة الاجتماعية وذلك بسبب إصلاحات المناخ المقترحة والتي ستدفع بحصة الطاقة المتجددة وذلك من 40% الى 80% بحلول نهاية العقد.وفي حين يمكن للحكومة الجديدة الاعتماد على الناخبين الإصلاحيين الذين يشاركونها رؤيتها الاستراتيجية، إلا أن قيادة شولز وأسلوبه في التواصل لا يعجب العديد من الألمان ففقط 16% من المشاركين بالمسح يعتقدون أنه يتمتع بقيادة قوية وفقط 18% يوافقون على ممارسات الحكومة المتعلقة بالتواصل وهكذا فإنه خلال معظم فترات تلك المرحلة الأولية، كان هناك عدم توافق صارخ بين أسلوب قيادة شولز المشابه لأسلوب ميركل وبين الدعم الشعبي للإصلاحات.لكن يمكن أن يكون شولز قد بدأ بتغيير ذلك الانطباع وذلك من خلال كلمته في البرلمان الألماني في 27 فبراير حيث أعلن استجابة للغزو الروسي والتهديد بعدم الاستقرار الإقليمي تغييرا تاريخيا في السياسة الأمنية الألمانية، إن القوات المسلحة الألمانية والتي أُهملت لفترة طويلة في هذا البلد المسالم بشدة ستتلقى الآن التمويل الذي تحتاجه لجسر الهوة بين القوة الاقتصادية الألمانية وثقلها الاستراتيجي. لقد خصص شولز بالفعل 100 مليار يورو (110 مليارات دولار أميركي) ضمن صندوق استئماني خاص من أجل تحديث القوات المسلحة والوفاء بالتزام ألمانيا كعضو في الناتو بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وبهذا القرار، لم يكن شولز وراء أحد أهم التحولات السياسية في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب فحسب، بل إنه تمكن من عمل ذلك بدون أي نقاش برلماني أو عام يذكر كما أن هذا القرار لم يكن القرار الوحيد مؤخرا الذي صدم حزبه، الحزب الديموقراطي الاجتماعي وهو حزب يتبنى تقليديا النهج التصالحي. لقد أوقفت حكومة شولز أيضا خط أنابيب الغاز (نورد ستريم 2) وانضمت إلى الولايات المتحدة وبقية أوروبا في إخضاع روسيا لعقوبات صارمة. لقد تم بالفعل دفن سياسة ألمانيا التي تمتد لعقود وهي سياسة (التغيير من خلال التجارة) بالإضافة الى دفن سياسة ويلي براندت التصالحية تجاه الكتلة الشيوعية السابقة.لكن الحزب الديموقراطي الاجتماعي ليس الشريك الوحيد في الائتلاف الذي اضطر لقبول الابتعاد بشكل كبير عن مواقفه التقليدية فلقد شاهد حزب الخضر سياساته المفضلة المتعلقة بالمناخ وهي تصبح وبشكل سريع ضحية للوضع الجيوسياسي فبدلا من إغلاق المحطات النووية المتبقية في ألمانيا كما كان مخططاً له سابقاً، ستبقى تلك المحطات تعمل ضمن الشبكة للمستقبل المنظور، وبدلا من التخلص التدريجي من الفحم ونزع الكربون من الاقتصاد بالسرعة الممكنة فإن وزير الشؤون الاقتصادية والعمل المناخي نائب المستشار روبرت هابيك من حزب الخضر يسعى بشكل نشط لزيادة الإمدادات من الوقود الأحفوري.في الوقت نفسه فإن حزب الديموقراطيين الأحرار المتشدد ماليا مضطر كذلك لإعادة رسم بعض خطوطه الحمراء، حيث عبّر الحزب عن رغبته في مناقشة التخلص من "كابح الدين" (قاعدة تتعلق بتحقيق التوازن في الميزانية والتي تحد من قدرة الدولة على الاقتراض) وزيادة الضرائب كما يقترح الحزب أيضا إجراءات شعبوية مثل دعم المستهلكين من أجل إدارة أسعار الوقود التي ترتفع بشدة.إذا كانت الأوقات غير المستقرة تتطلب سياسات جديدة ومرونة سياسية فإن ائتلاف أمبيلكواليتيون قد أثبت حتى الآن أنه يستطيع مواجهة التحديات ولكن التغييرات العميقة والكبيرة في السياسات عادة ما يكتنفها المخاطر وخاصة عندما يتم تبنيها بدون الكثير من المشاورات والنقاشات، وإن بعض تلك السياسات التي تفتقر لقبول شعبي واضح قد تأتي بنتائج عكسية.ليس من المستغرب أن التحالف- الذي شُكل حول الثلاثي شولز وهابيك ووزير المالية كريستيان ليندنر من حزب الديموقراطيين الأحرار- قد بدأ بالفعل بإظهار ما يوحي بوجود توترات، ويخشى حزب الخضر والديموقراطيون الأحرار من أن يُهمشوا بفعل الأمر الواقع، ويشعر الحزب الديموقراطي الاجتماعي بأنه يُدفع لاتجاهات مختلفة من شركائه الصغار، ونظراً لهذه الديناميكية المدمرة يتعين على الأحزاب إعادة النظر في اتفاقية الائتلاف التي تم التوصل اليها في نوفمبر الماضي وتقييم عواقب الاضطرابات السياسية التي حصلت خلال الأشهر الأولى من تولي الحكومة مهام عملها.ولكن وبعد سنوات عديدة من نهج ميركل في الحكم والقائم على أساس "لو لم يكن الشيء مكسوراً فليست هناك حاجة لإصلاحه" فإن معظم الألمان يدركون أن الإصلاحات الحقيقية ضمن مجموعة واسعة من السياسات لم يعد من الممكن تأجيلها، وفيما ينعلق بالائتلاف الذي وعد بـ"الجرأة في عمل المزيد من الإصلاحات"، فإن المفتاح ليس التحلي بضبط النفس، بل تجنب العمل من أجل تحقيق أغراض متعارضة.وبعد مرور 100 يوم، لا تزال الحكومة تحظى بالثناء من ناخبين يرحبون بالإصلاح ويشاركونها رؤيتها الاستراتيجية الشاملة، ومع ذلك، يمكن أن يصبح هذا الثناء عبئاً إذا فشل ائتلاف أمبيلكواليتيون في البقاء موحداً. لقد كانت أحزاب المعارضة الثلاثة في البرلمان الألماني خجولة الى حد ما وحتى أنه يمكن القول انها في سبات عميق حتى الآن، ولكن هذا لن يستمر طويلا، ومع الانتخابات القادمة في العديد من الولايات الاتحادية قد تبدأ تلك الأحزاب سريعا بإيجاد ثغرات ضمن الثلاثي الحكومي الهش.* أستاذ مساعد للرعاية الاجتماعية في كلية لوسكين للشؤون العامة بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، وهو أستاذ علم الاجتماع في كلية هيرتي للإدارة العامة في برلين.
مقالات
أول تقييم للحكومة الألمانية
23-03-2022