الوطن والمواطنة والوطنية
في هذا الجو الإقليمي والدولي الملبد بالصراعات والحروب التي تشعلها الخلافات القومية والنزاعات الدينية وتؤججها المطامع الاقتصادية والرغبات التوسعية، كان لا بد في مجتمعاتنا المستقطبة لكل النزعات الانقسامية أن نعيد التذكير بما قد يكون بدهياً في غير دول أو مجتمعات مستقرة، وعنيت بذلك تسليط الضوء على المواطنة المرتبطة جوهرياً بمفهوم الوطنية والنظرة إلى الوطن.في علم السياسة والقانون تتكون "الدولة" من ثلاثة عناصر رئيسة، هي: الأرض، والشعب، والمؤسسات الدستورية التي تمارس سيادتها على كامل أراضي الوطن وعلى جميع المواطنين، بما يقتضي امتثال الجميع لهيبة القواعد القانونية العامة والمجردة ولسلطة القضاء العادل والنزيه. وتعني المواطنة التفاف المنتمين إلى وطن معين حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك، وبما يفرض التزام جميع المواطنين بما تفرضه عليهم القوانين من واجبات لقاء ما يتمتعون به من حقوق وحريات ترعاها مؤسسات وأجهزة الدولة المختصة.
وهنا تتبلور أهمية الربط بين مفهوم الدولة وأبعاد المواطنة، حيث لا وطن بلا دولة، ولا دولة بلا سلطة، كما أنه لا مواطنة من غير حقوق تقابلها واجبات، وحيث لا قيمة لكل ما سبق من غير "وطنية" تعني التعلق الوجداني للفرد بالجماعة الوطنية وأرضها ومصالحها، والاندماج بثقافتها والمشاركة في صنع حاضرها والتمهيد لمستقبلها.فقبل أن يسأل المواطن عمّا قدمت له دولته عليه أن يسأل ماذا قدم هو لوطنه؟ ذلك لأن التعصب للطائفة أو القبيلة أو الحزب أو الزعيم يناقض حتماً شعور الوطنية، ويشكل- بلا أدنى شك- انتقاصاً من تمام المواطنة، كما أن أي ولاء أو تضحية وأي انتماء أو حتى ميل لغير الوطن هي مقدمات لسلوك سلبي قد ينتهي الى التورط بجرم الخيانة العظمى. للمواطنة شروط لا تكتمل إلا بتحققها مجتمعة، أولها الوطنية بما تعنيه من انتماء لتراث وثقافة ومصالح مشتركة، وثانيها الخضوع الطوعي للديموقراطية بما تعنيه من احترام الأكثرية لرأي الأقلية ومراعاة خصوصياتها، وخضوع الأقلية لتوجهات الأكثرية وقراراتها، ومن جهة ثالثة تفترض المواطنة تأكيد التلازم بين الحقوق والواجبات القانونية والسياسية واحترام مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية. بالمقابل، فإن مقتضيات المواطنة ومستلزمات الوطنية ترتبط بواجبات الدولة بإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين، فإذا تخلت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن القيام بواجباتها بتهيئة البيئة الملائمة لتحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية يبدأ شعور الوطنية بالتناقص وتبدأ المواطنة بالتآكل، وهذا ما يفتح المجال أمام أصعب مشاعر الإحباط وينمّي الرغبة في الهجرة، ويهدد الاستقرار الوطني ويدفع المواطنين إلى الاحتماء بجماعات أدنى مرتبة من الدولة. عود على بدء، فلكل منا، أفرادا ومؤسسات، دوره في تجنيب مجتمعاتنا من أي اهتزاز في أواصر الوحدة الوطنية، وفي تحصين دولنا من مخاطر تلاشي الانتماء الوطني؛ إذ لا ميل يجب أن يطغى على الولاء للوطن، ولا شعبوية سياسية تبرر التلاعب في متانة التلاحم المجتمعي، ولا أي خلاف يبرر استجرار عدوى النزاعات والانقسامات والأحقاد المميتة.المواطن الذي يمتلئ قلبه بالإيمان يتشبع وجدانه بالوطنية، ولنا في رسول الله قدوة تحتذى، إذ خاطب مكة التي يغادرها مهاجراً بقوله: "والله إنك أحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، فالمسؤول الذي يتباهى بثقة من ولّوه المسؤولية، لا بد أن يُسأل– في الدنيا والآخرة- عن تجاوز حدود ولايته وعن التقصير بواجباتها وعن التمادي في إهمال مستلزماتها، أما الذي يحمل طوعاً وكالة من الشعب ليمارس دوره في الرقابة والتشريع، فذلك أشقى الناس بحمل الأمانة والبر بالقسم وتغليب المصلحة العامة على المصالح الانتخابية والاعتبارات الفئوية الضيقة.وما أحوجنا، مواطنين ومسؤولين، أن نردد بكل جوارحنا قوله تعالى: "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".* كاتب ومستشار قانوني.