رحل قبل أيام قليلة الدكتور أحمد الخطيب إلى جوار ربه، وبرحيله عن عمر جاوز التسعين عاماً، تطوى صفحات وطنية مشرقة سطرها هو وإخوانه من جيل الآباء المؤسسين الذين أرسوا دعائم نظام دستوري برلماني متميز ونابع من الخصوصية الكويتية، جسدت الرضائية والتوافق الذي نشأت عليه الكويت، واستوت على عوده في مراحلها المختلفة، دون أن تخل أو تنال تلك الخصوصية من أصول وركائز النظام البرلماني بخصائصه وأركانه الأساسية. جيلٌ أحدث نقلة فريدة نحو دولة دستور عصرية ديموقراطية بضمانات راسخة وحقوق وحريات وارفة، بعد أن كنا مشيخة عشائرية سلطة الأمير فيها كانت دائمة مقيدة بمشاورة شعبه والنزول عند آرائهم، بنمط عشائري متواضع.

جيلٌ حمل أمانة تمثيل أهل الكويت بأمانة وصدق، التقيت شخصياً بأربعة عشر من رجالاته، فوجدت فيهم الحس الوطني الغيور، والحرص على تماسك الوطن، والولاء لأسرة الحكم، والإصرار والعزيمة في الحفاظ على حق الشعب في المشاركة الحقة في إدارة شؤون بلاده ومحاسبة من يكون بموقع المسؤولية، لمست فيهم رجالاً يعملون بصمت ولا ينتظرون شكراً ولا عطاءً ولا منة من أحد وإنما حافزهم ودافعهم مصلحة وطنهم.

Ad

من بين من قابلتهم مطولاً المرحوم عبداللطيف ثنيان الغانم عام 1984، وحدثني رحمة الله عليه عن جهودهم الوطنية في كتلة العمل الوطني عام 1938، وحلق بي عبر السنين إلى أن توجوا جهودهم بالتوافق مع الشيخ عبدالله السالم على وضع دستور الدولة الدائم، وهو ما أنجز بالمجلس التأسيسي الذي تولى رئاسته... رحمة الله عليك يا بو بدر.

جيلٌ تميز بحبه لوطنه، ولم ينشغل بتجميع الثروة وزيادة الثراء، جيلٌ نزاهته وأمانته كانت خلقاً حياتياً وسمتاً سياسياً، لم تشغله بطولات زائفة ولا صراعات تافهة، ولا انحرافات جارفة، جيلٌ لم تغره المناصب والزعامات، ولم تشغله التكسبات والإغراءات، ولم يتسابق لتعيين المعارف والصداقات، ولم يلوث الانتخابات بالرشاوى والعطاءات والهبات. جيلٌ سطر ملحمة وطنية مشرقة.

أما الجيل الذي نشهده الآن فهو جيل جديد من أبناء الأسرة والنواب، صار همهم وديدنهم الانقضاض على خيرات الدولة واقتسام ثرواتها، فظهرت فيهم الأنانية والإثارة، والتآمر والتربص بالدستور وبمجلس الأمة ومحاصرة الحريات وملاحقة كل صاحب رأي حر ونزيه ولديه مجرد بوادر للإصلاح.

لقد تم تحويل مجلس الأمة لسلطة شرفية للوجهات والتكسبات والخدمات ونزعت عنه - واقعياً - كل سلطاته واختصاصاته المهمة تشريعياً ورقابياً، وصارت العضوية والوزارة غاية بذاتها وتشريفاً لا تكليفاً، فغاب العمل الجاد بكل تفانٍ وصمت.

إن حفظ المعروف لجيل الآباء المؤسسين، الذين نسأل الله الرحمة للأموات منهم وطول العمر والعافية لمن هو على قيد الحياة منهم، يكون بحفظ الأمانة التي عملوا من أجل إرسائها منذ عشرينيات القرن الماضي (1920)، وبإعادة الاعتبار لكويت الدستور والحرية والنظام البرلماني المعتبر كما تم بناؤه وتطبيقه في مراحل مختلفة من عمره، لا يدخل ضمنها مجالس ضيعت الأمانة وتراجعت عن رسالتها، وخصوصاً مجالس 2013 و2016 و2020.

ولتدرك أسرة الحكم أن التراجع الذي تم ويتم هو خسارة لهم وللكويت وشعبها، ولن ينفع مسايرة أو الاستماع للوشاة والمتآمرين على الدستور ورغبتهم في عودة المشيخة العشائرية لهيمنتهم وتحقيقهم لمآربهم الشخصية.

أ. د. محمد المقاطع